وقفة مع “لماذا يفوتنا القطار دائماً؟” لسلطان المعاني

وقفة مع “لماذا يفوتنا القطار دائماً؟” لسلطان المعاني


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    د.مجد الدين خمش
    (بروفيسور علم الاجتماع والسياسات الاجتماعية)

    الأستاذ الدكتور سلطان المعاني، أستاذ علم الآثار والتاريخ، نائب رئيس الجامعة الهاشمية (سابقا)، وصاحب عدد من المؤلفات والدراسات حول النقوش الساميّة القديمة، والعربية المبكرة، يستقرؤها في البوادي والقفار، ليعيد توثيق الواقع العربي القديم، وارتباط الإنسان القديم ببيئته، وابتكاره لأساليب وسلوكيات مناسبة للتكيّف مع قسوتها وقلة مياهها.
    لكن المعاني في هذا الكتاب يستقرئ الواقع العربي المعاصر بتفاصيله وثغراته، وارتباطاته بالقوى والحضارات الأخرى من حوله وفي العالم، ويتشوّف المستقبل الذي يتجاوز ثغرات هذا الواقع التي ما فتئت تتسبب في أن يفوتنا القطار؛ قطار التنمية والتقدم.
    ويرى المعاني أن مزاج الألفية الثالثة يعيد التذكير بإرهاصات محاولات تحقيق العولمة التاريخية القديمة. فمنذ الإسكندر المقدوني، وأكاسرة الفرس، وخانات آسيا الوسطى، وقياصرة روما، وسيطرة العرب على طرق الحرير البرية والبحرية القديمة، جرت محاولات لتوحيد العالم ضمن إطار سياسي اقتصادي عسكري، مؤطر بهُوية ثقافية مسيطرة. تعمّقت هذه المحاولات وأصبح لها جذور في المؤسسات المدنية والعسكرية في عصر الامبراطوريات الآسيوية والأوروبية فيما بعد. لكن العولمة تعود الآن -كما يرى المؤلف- من خلال الاتفاقات التجارية سلمية الطابع، متزامنة مع سيطرة وسائل الإعلام العملاقة على الثقافة، والفنون، والأذواق، وفلسفة الحياة، ومعنى الوجود، والموت.
    ويتساءل المؤلف: هل أصبح العالم بالفعل “قرية كونية”، بحيث تطغى قيم الاختلاف السلمي، وتقبل الآخر، أم تسود قيم التنميط وذوبان “الآخر” في هُوية معولمة، خصوصاً بعد تراجع وظائف الدولة اقتصاديا وثقافيا. ولكنه يتوجس من دور وسائل الإعلام المعولمة في هذا المشروع الاقتصادي والإنساني، فهي ما تزال أسيرة لأحادية الرؤية، تدافع عن قضيتها دون اعتبار حقيقي لرؤى “الآخر”، وقضيته، ومصالحه. كما أنها تدعم تصنيف “الآخر” في مقابل “الذات” من خلال ترسانة هائلة من الصور النمطية، والمواقف المسبقة التي تهدد الهُوية الإنسانية المعولمة ودورها في تدعيم الاستقرار العالمي، والتعايش السلمي، ومواجهة التهديدات المناخية والسياسية التي تؤرقنا جميعاً. وقد أدّت إلى تراجع القيم التقليدية وسلطاتها لصالح قيم التقنية الأداتية، والاستهلاك الجماهيري الواسع، وما يرافقهما من فقدان الفرد لحريته الحقيقية بحيث يصبح مسيّرا من هذه القيم ومؤسساتها، وسلطاتها الطاغية في حياته اليومية.
    في هذا الكتاب سرد فكري عاطفي ممتع، يتكئ على التاريخ، وأدبيات العلوم الاجتماعية، ويغرف من الثقافة الاجتماعية الشعبية للناس بحب وحنو، ويقدم توصيفات لمثاليات وواقع القيم والتقاليد والعادات الاجتماعية، والعلاقات والمشاعر المتبادلة بين الناس، ونمط المعيشة وتحدياته، والطقوس الجماعية في السياسة والإعلام والثقافة والفنون. كما في المجتمع الواسع في الريف والبادية والمدينة والمخيم. ويتشارك الكتاب في ذلك مع علم اجتماع التنمية الذي يحلّل هذه الموضوعات والظواهر، ولكن ببياناته الإحصائية ومفرداته التقنية الخاصة.
    وبالتالي يمكن تصنيف الكتاب ضمن سرديات اللمحات الفكرية الاجتماعية-الثقافية. وهو، بالإضافة لذلك، عمل أدبي يرسم لنا الراوي فيه عالماً من التنافس والصراع والثغرات، لكنه يعود ويبشّر القارئ بالتفاؤل والأمل بالمستقبل، تُطل منه السياسات والطروحات الثقافية متلازمة مع المشاعر، واثقة متفائلة، تحفز القارئ لإعادة التمسك بأهدابها بعد أن بهتت وتراجعت في خضمّ الأحداث العالمية، والتحديات المعيشية، والسياسية المحلية، وبيروقراطية المؤسسات، وهيمنتها، والثغرات المزمنة في الاقتصاد وسياسات القوى المجاورة.
    وهو يذكّر القارئ بماضيه وجذوره؛ مما يدعّم حب المكان وأهل المكان وثقافتهم الاجتماعية، فيرسّخ مبادئ المواطنة، وأركان الهُوية الوطنية الجامعة، بالرغم من تزايد انتشار الهُويات المعولمة، وضرورة التمسك بسياسات الدولة، والوقوف معها للّحاق بالقطار قبل أن يفوتنا من جديد.

    جريدة (الرأي) الأردنية