“وليد خالدي”
إن فهم دور الإنسان في الحياة هو في الحقيقة لافتة تجسدت عوالمها الطافحة بالمعاني والقيم والمبادئ في العمل الفني الذي بين أيدينا الموسوم بـ ” أسرار قوقعة ” للكاتبة الأردنية شهيرة منير الحسن، وهي رواية تقع في 248 صفحة من القطع المتوسط، صادرة عن الآن ناشرون وموزعون بعمان/ الأردن، في طبعتها الأولى 2020م، والمتن الحكائي في حركته الدؤوبة يقيم جسور التواصل المبنية على البؤر الوجدانية والعاطفية مع المتلقي، بما يتضمنه من أحداث ووقائع ذات منحنيات تتراوح بين الصعود والنزول عبر علاقة ديالكتيكية متبادلة، ولكنها توحي في شكلها العام إلى إبراز الجوانب التي تضعنا أمام حقيقة واحدة؛ إثراء التجارب الإنسانية في بعدها الإيجابي، وأقصى ما يقال عنها على أنها عمل سردي يقدم في جوهرانيته قصة مثالية عن النجاح، هذا النجاح المحمل بترسانة من الرسائل الإنسانية المفعمة في فحواها بالأمل والطموح والإرادة التي تتكسر من جرائها صفائح الجليد.
1- دلالة الأسماء وفضاءات المعنى:
تطالعنا في هذا الصدد، شخصية حياة وهي ملفوظ لساني مفجر لأسوار الرواية في رؤيته البنائية، فعندما تقرع آذاننا لفظة حياة فإنها في محفليتها حاملة لرياح التغيير ورسائل الإصرار والعزيمة في أرقى مظاهرها، تتفتح من جرائها الآفاق وتتفجر معها كل ينابيع الطموح، وتتحطم في خضمها كل المعايير الجاهزة والعادات المهترئة، التي لطالما ما تقف عاجزة مقذوف بها أمام عتبات الطرق المسدودة، فشخصية حياة أو بطلة العمل الفني في هذه الآونة تمتهن حرفة التعليم كمدرسة لأطفال الصم والبكم، تمتطي أذنها سماعة كحدث طارئ غير من معادلة الحياة ومجرياتها، لهذا، فإن تجربة الإقصاء والحرمان تحولت إلى مسؤولية أخلاقية؛ أفرزت لنا وضعية ساقتنا إلى بوادر التغيير وسياسة الاعتراف، هذه الوضعية بالتحديد ” تتطلب ضرورة النضال الاجتماعي الذي يجب أن لا يقتصر على حفظ أو تنمية المصلحة الاقتصادية فقط، وإنما يجب أن يطرح المسائل الأخلاقية والثقافية وعلى رأسها الحرية والاعتراف والعدل. ومن ثم، فإن الأمر لا يتعلق بالمنحى النفعي فقط، وإنما يجب استكمال النموذج النفعي بنموذج الاعتراف…” على حد تعبير الزواوي بغوره.
والشيء اللافت، أن الكاتبة شهيرة منير الحسن من خلال هذه الشخصية أو المماثلة لها داخل المتن الحكائي؛ تكشف عن بنية أنطولوجية أصيلة، ولعل ما يعنينا في هذا المجال الاندفاعات التي تقود الإنسان نحو التفكير في مصيره وما ينتظره وإلى أين ستؤول إليه الأمور، انطلاقا من خلع التصورات الجوفاء والصماء، واعتلاء الطرق التي تكون وثيقة الصلة بالحياة والوقائع اليومية المؤدية إلى المسالك البراغماتية، المتجاوزة للمصائب والمحن من أجل خلق حلول بديلة تتخطى عتبات المشاكل العالقة، إذ تضعنا أمام وجودانية حقيقية في ساحة الحدث، يلخصها الملفوظ اللساني التالي، وهو أحد عناوين فصول الرواية وشعارها بما يحويه من بنى عميقة ” عندي أمل.. كلي أمل ” ويتجلى ذلك أيضا في زيارة شيخ الجامع لحياة زائرا، هذه الزيارة التي توقدت داخل كيانها فأشعلت فتيل النشاط لديها، عندما قال لها ذات يوم بأن الإعاقة السمعية لا تعني الاستسلام، بل هي نعمة خصك الله بها، وعليك أن تكوني أهلا لهذا الابتلاء، من خلال صناعة الخصوصية في تكثيف الجهود في إنشاء عالم مفارق يشكل براكسيسا جديدا، وهو ما دفع بها إلى البوح في المقطع السردي الآتي بنبرة واثقة ملؤها التحدي والحيوية ” شكلت كلماته فارقا في تصرفاتي وفي قراراتي كذلك، وكأنني كنت بحاجة إلى من يعترف لي بصعوبة وضعي، لم أكن بحاجة إلى من يهون عليّ ويدعي بساطة وضعي “.
فحياة تكشف عن بصيرة روحية آسرة بفكرها المضمخ بروائح الإرادة، فالمأساة تحولت إلى مرحلة عمرية جديدة في اندفاعاتها وكفاحها، حيث تدحرجت بها الأيام إلى مواطن السعادة، من خلال هجران غربة الذات بإقامة الهدنة والسلام، وعلى ضوء هذا ندرك جيدا تلك النجاحات التي حققتها على أرض الواقع المعيش، ونرصد معالم هذا التفوق من خلال العلاقة الحميمية التي كونتها بينها وبين طلبتها كمدرسة، إذ عبرت عن المكاسب التي تنشد التقدم الحضاري، بفتح فضاءات للتشارك والحوار، ويفهم من هذا الثراء الوجداني والامتلاء الروحي، من خلال التوازن النفسي الذي يخرج الذات من براثن الوضاعة والانحطاط على صعيد الممارسة في لحظتها الراهنة، وهنا، تتجلى أهمية الانبثاق الذي يبعث الحياة من جديد بالخروج من مستنقع التناقضات، ورأس الأمر هنا، مرتبط بالذات عندما تضطلع بتلك المساهمة الفعالة في صناعة التاريخ الإنساني، كذات لها سهمها ضمن الإمكان الوجودي.
وهو ما كشف عنه المسعى كذلك داخل المتن الحكائي، ويبرز بجلاء، مع شخصية أزد الذي غير الواقع من موازين حياته، بعدما تعرض لحادث خطير أفقده هو الآخر حاسة السمع، قبل مغادرة بلده مسقط إلى بريطانيا لمواصلة تعليمه إرضاء لأمه قبل أن يتزوج، فكانت هذه العودة علامة فارقة بين الأمس والحاضر، فأضحت في جوها العام محملة بثقل الهموم وأعباء الحياة في خيباتها المتكررة، فانتهى به المطاف مثل حياة يعمل مدرسا في مدرسة الصم والبكم، إلا أن الإرادة كما ذهب إلى ذلك الناقد الجزائري أحمد يوسف هي أكثر السلطات التي يتوافر عليها الإنسان؛ لأنها تهبه القدرة على فعل كل شيء يكون في حدود الإمكان، وعليه، فإن تزايد الحاجة إلى إمكانيات حياتية تصنع الفارق والخصوصية، تجعل من الكينونة تقتات على هامش المبادرات، يضمن لها المسوغات الوجودية على مستوى السلوك والأفعال اليومية، فالانتقال هنا يقضي على كل التراتب القيمي الهرمي، إذ يتمخض عن هذا الانزياح التخلي عن الهواجس والأوهام المتراكمة، بالوقوف على شاطئ الأمان والرضا والارتياح، حيث تقول الساردة بضمير المتكلم على لسان أزد ” لا يهم ما اسمي، لا يهم كم عمري، كل ما يهم الطلاب هنا أنني مدرس أتقن التواصل معهم. هنا عالم أبسط مما يظن الكثير من الناس، وأروع مما قد يظن بعضهم. أنا هنا في هذا العالم منذ قرابة خمس سنوات. مر علي الكثير من الطلاب، أحببتهم وأحبوني، مرتاح هنا وراض بقدري، يبدو أن الله قد اختار لي هذا المكان ليناسبني. أؤمن بأن وجودي هنا هو الخطة البديلة! “.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الروائية شهيرة منير الحسن لم تضع اسم أزد اعتباطا وأقحمته في جسد النص فارغا من المحتوى؛ بل إن دلالة الاسم من حيث الأصل اسم كردي، وهو الشخص الحر والطليق، فضلا عن ذلك، تتمتع هذه الشخصية بكثير من الحنكة والذكاء والتفكير الراقي والراشد، بحيث تستطيع تخطي العقبات والمعوقات والضربات والمنعطفات الصادمة التي تواجهها بكل تفاصيلها ومساراتها ومنعرجاتها، ما يجعلها قادرة على وضع استراتيجية، تتمثل في تلك الخطط التي تسير عليها لتحقق في نهاية المطاف الأهداف المنشودة، إذ يؤكد على أنها شخصية ناجحة ومتفوقة في الدراسة والعمل، كما تحمل خصائص وسمات نستشفها من خلال تلك المحبة التي تضفيها كل شرائح المجتمع والناس في مجالاتها التداولية البراغماتية داخل الحياة. إذ تستمد مقوماتها من الانتصارات التي تطال الجوانب السيكولوجية عبر استراتيجيات التواصل، تعكسها تلك القيادة الرشيدة البارعة، تتمظهر عناصرها الأساسية، في استغلال الفرص السانحة والملائمة، وهو ما يؤكد اللحظات الأكثر تطورا، وهي اللحظة التي يتم فيها الاعتراف اللامشروط بإنسانية الإنسان.
فكانت الرواية الباعث الحقيقي في معالجة الأمراض المزمنة التي تسكن الذوات، وجوهر المسألة يكمن في طبيعة الأمل المتجدد الذي يقود الكينونة إلى الارتقاء ضمن عوالم الإبداع والتجديد والابتكار والإنتاج الذي يعزز من الحياة الواقعية للبشر، بحيث يكرس مشروعية البقاء، وهي قضية عمر رسمت في مساراتها وتطلعاتها كل مباهج الحياة التي تثير فينا الدهشة والإعجاب، تقول الساردة على لسان بطلتها حياة ” ركضنا طويلا خلف وجه خالٍ من التجاعيد، لم يخطر لنا أن الكفوف ستفصح عن تلك التضحيات – شئنا أم أبينا !- في نهاية المطاف ستنقش على كفوفنا خرائط مدننا كاملة، بأحلامنا المدفونة، بأحزاننا المكتومة، بضحكاتنا الموهومة!. لهذا قررت أن يصبح حلمي حقيقة. ما زلت صماء يا أمي، وربما كان هذا أفضل ما حصل في حياتي. ما زلت صماء لكن قلبي لم يعد أصما، خرجت من تلك القوقعة، أسمع المودة في كل ما يفعله زوجي الغالي أزد “. فالرواية تقدم لنا الشخصيات وهي تخوض معاركها في ظل هذا العالم الذي يموج بالمتناقضات والتوترات الاجتماعية المتزايدة، إذ لم يشكل عقبة كبيرة أمام شخصية حياة، تعكسه كل مظاهر الحياة المادية والمعنوية.