يسافر على أجنحة الكابوس

يسافر على أجنحة الكابوس


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    أ.د/ يوسف حطيني

    تحكي رواية “السفر آخر الليل” للعماني يعقوب الخنبشي عن أحمد الموظف البسيط الذي يعمل، بعد انتهاء دوامه الرسمي، سائقاً لسيارة أجرة، كي يستطيع تامين متطلبات عائلتيه (الصغيرة: زوجته وأولاده، والكبيرة: أبوه وأمه وأخوه وأخته). وحين تصعد مع أحمد في صباح مبكّر فتاة تفوح منها رائحة البخور الظفاري تبدأ حكاية أخرى، إذ يتعلَق بها تعلّقاً شديداً، ويرافقها في مشاويرها، ليجزى منها جزاء سنمّار، إذ تلصق به تهمة أبوة الطفل الذي تحمله في أحشائها،  ليكشف التحقيق من ثمّ عن براءته، براءة لها طعم المرارة والموت، فهو عقيم لا ينجب أولاداً، والأولاد الذين يملؤون حياته بالفرح ليسوا من صلبه، إنما هم، كما تعترف الزوجة تحت الضرب والرفس، ثمرات علاقة غير شرعية مع أخيه صالح، استمرت سنوات طويلة. وفي مواجهة ذلك يسقط أحمد مغشياً عليه، متأثراً بظلم أقرب الأقربين.
    وتبدو شخصية أحمد مثالاً نموذجياً للفقراء الذين يتحملون أعباء نفقاتهم ونفقات غيرهم، إذ إنه مكلّف بالإنفاق على أسرته، وتلبية طلباتها من ثوم، وبصل، وسمك، وعيش، وطماطم، وزيت، وليمون، ولبس وتعليم، وهو مكلّف أيضاً، في إجازته، بتصليح تسرّب الماء من حنفية المطبخ، وبعض الأنوار المعطوبة، وهو يحمل بالإضافة إلى هذه الهموم همّ تجديد ملكية سيارته الذي يوافق هذا الشهر، ورعاية أبيه العاجز عن الحركة، وأمّه المريضة، وأخته الطالبة، وأخيه الذي لا يعمل شيئاً، سوى أن يستمتع بهواء المكيّف على مدى ساعات النهار، وأن يسطو على حديقة أخيه المحرمة في غيابه.
    بيئة الانسحاق هذه التي شكّلت واحدة من ثلاث بيئات عاشها أحمد (بيئة الأسرة، وبيئة العمل، وبيئة طاهرة)، ولّدت في نفسه رغبة جامحة في الانعتاق والخروج من إسارها، لذلك “تمنّى أن يكون هو أحد المسافرين على متن الطائرة التي رآها تقلع في هذه اللحظة، وترتفع فوق سطح المطار..
    إنّ الرغبة بالسفر تأتي نتيجة حلم بالخلاص من هذه البيئة الخانقة، لذلك يعدّ ظهور الفتاة (طاهرة) في حياته نوعاً من السفر خارج حدود تلك البيئة، وهذا بالضبط ما جعله صيداً سهلاً لها، على الرغم من أنّها لم تمتلك مواهب الخديعة، وبدت صيّاداً نموذجياً منذ اللحظة التي صعدت فيها السيارة، إذ راحت ترقص وتغني وتتمايل مع أغنية عبد الكريم عبد القادر، ولم تتوان في اتصالها الأول عن أن تطلب منه إرسال بطاقة لتملأ رصيد هاتفها الجوال، مما يجعلها مكشوفة له، حتى قبل أن يوصلها إلى مشاويرها، وقبل أن يذهب معها إلى إحدى حفلاتها الراقصة.
    وإذا كان الروائي يرسم شخصية أحمد بهدوء، ويقدّمها من خلال الحدث والحوار والحلم، فإنّه ينحو في تقديم الشخصيات الأخرى منحيين متناضدين؛ إذ تقتحم شخصيات العائلة السرد بشكل تصنيفي متعاقب، بينما يتاح للشخصيات الأخرى إظهار صفاتها عبر تقنيات السرد المتاحة.
    ويبدو المؤلف شغوفاً بكشف الأمراض الاجتماعية التي يعاني منها مجتمع الطبقات الذي يسخر منه سخرية لاذعة، فمراقف السيارات الفخمة داخل الشركة، كما يقول حارس الأمن لأحمد “مخصصة فقط لكبار الموظفين، ما حال سيارات التاكسي، واصحاب الدرجات العمالية!” ص19.
    والمؤلف مشغول أيضاً بتدفق العمالة الوافدة، إذ يذهب أحمد إلى روي، حيث يتراءى له “بأنه في أحد شوارع كلابا في مدينة بومباي بالهند” ص26، وهو مشغول أيضاً بهمومها، حيث يشكو أحد الهنود أنه غير مصرّح لهم ليعملوا سائقين لسيارات الأجرة: “ليش ما يعطي حكومة من شان أنا سوق تكسي، أنا ما في سيم سيم أنت إنسان؟” ص26، وهو بالقدر نفسه مشغول بالأمراض الاجتماعية التي يحملها الآسيويون لمجتمعه، حيث البغاء أكثر انتشاراً بين هؤلاء، وحيث يمكن أن تسدد الفتاة أي فاتورة من جسدها، وقد صور المؤلف تعرض أحمد لموقف من قبل مجموعة من الصينيات اللائي حاولن استدراجه إلى باب الشقة، ويتلكأن في دفع الأجرة حتى اللحظات الأخيرة.
    وتلفت النظر في بناء الشخصيات عناية الروائي باختيار أسماء شخصياته؛ إذ يقيم، بمهارة، علاقات متضادة بين أسماء شخصياته الرئيسة ودلالاتها اللغوية، فقد قام أحمد بما لا يحمد حين فكّر بخيانة زوجته، وأثبتت شريفة أن علاقتها بالشرف معدومة، فيما أكّدت الأحداث أن صالح وصالحة بعيدين كل البعد عن الصلاح، وأمّا طاهرة، فقد دنّسها رجل غريب، وحملت منه سفاحاً، لتبقى بعيدة عن مفهوم الطهارة من خلال ممارساتها المتعددة.
    ويعمد يعقوب الخنبشي في تطوير سرده الروائي على تقنيات متعددة، محدّداً البيئة السردية في إطاريها الزماني والمكاني، فيصف وقت خروجه للعمل، ويربط أحداث يومه بالطبيعة وأشجارها وعصافيرها، كما يستثمر الروائي تقنيتي الحلم والكابوس في خدمة السرد، فيشير إلى طيف طاهرة التي زارت أحمد “في المنام، وأسمعته أعذب الكلمات.. لقد مارس معها ساعة حب دافئة، أيقظته من نومه مبللاً ملابسه” ص33، كما أفاد من الكابوس في إشارة مبكرة ذكية إلى نهاية الرواية، حيث يعرض على المتلقي كابوس أحمد الذي تكرّر بشكل دوري، “حتى أصبح لا يخيفه.. كان يحلم بأجساد أطفال بلا رؤوس، يدخلون في بركة من الدم، ثم يخرجون الواحد تلو الآخر، يجرون خلفه، وهو يلهث إلا أن يفيق” ص8.
    ويستطيع قارئ الرواية عندما يصل إلى نهايتها أن يعيد تفسير حلم ذلك الكابوس الذي يحيل بقوة على علاقة غير سوية بين أحمد وبين الأطفال الذين سيصبغون حياته بحمّى الانتقام.
    ويلاحظ القارئ أنّ اللهجة العامية تطغى على حواراته، وهذا ما يعزز دورها في إضفاء الصبغة المحلية على السرد ذاته، وقد تتخذ هذه اللهجة شكل العربية المكسّرة التي تتخللها كلمات من لغات أخرى، للتفاهم بين العرب والآسيوييين الذين يملؤون البلاد. إضافة إلى ذلك فإن ما يعزّز الشعبيّ في الرواية الأغنيات التي يسمعها أحمد في سيارته، فيما يرسّخ مشهد وفاة والد أحمد صورة نموذجية من صور الموت في البيئة الشعبية العربية الإسلامية.
    في “السفر آخر الليل” ثمة إذاً حكاية ترسمها خيوط القدر، وسرد يجتهد في أن يستثمر إمكانات الاشتغال الروائي، وثمة قلم لا يهادن في مواجهة عيوب المجتمع الذي يعيش المؤلف بين ظهرانيه.