نبيل أبوديه
صدر مؤخرا كتاب «أحاديث قريتي» للقاضي ماجد غنما، وهو من إصدارات «الآن ناشرون وموزعون». وقد سبق للمؤلف نشر رواية «أيام القرية» عام 2000، وبين الكتابين تشابه في المضمون. أثار هذا الكتاب في نفسي الشجون، ففي داخل كل منا حنين الى القرية، حتى لمن لم يسكن القرية. هذا ربما لأن عمان كانت، في طفولتنا، وربما في أجزاء منها لا تزال كذلك اليوم، مجرد قرية كبيرة، لا مدينة ملايينية. باللغة الإنجليزية هناك فرق بين مجتمع المدينة، ومجتمع القرية: في المدينة Society، وفي القرية Community. والأصل في هذا التمييز يعود في الحقيقة لفيلسوف ألماني ميز بين حياة المدينة وحياة القرية: مجتمع المدينة Geselschaft ومجتمع القرية Gemeinshaft. وللدلالة على مجتمع القرية استخدم لفظة Volk التي منها تأتي كلمة «فولكلور» Folklore. للأسف لا أجد كلمة عربية توازي الألمانية Volk، لكنها تعبر، فيما تعبر، عن علاقة الانسان بالمكان، والارتباط بالأرض. عطر الأرض، حقول القمح، رائحة القهوة تنساب في الجوار، السماء المرصعة، النسيم العليل: كل ما نفتقده في المدينة. لكن الأهم من هذا كله، علاقة الانسان بالإنسان. في القرية تحكمنا الأعراف والتقاليد، والأخلاق، أما في المدينة، فيحكمنا فقط القانون. في القرية، الكل يسعد بعمله، ربما لأنه يرى ثمرة عمله حقيقة واقعة أمامه: المزارع يرى غلاله في نهاية الموسم، فرحا بها، والصانع يرى فيما يصنعه فخرا له يكسبه ثناء الناس من حوله. أما في المدينة، فقد يعمل الانسان بأي عمل -لا يهم ماذا يفعل، أو ان كان ممتعا له أم لا- ان كان الراتب مناسبا.
لكن الكثيرين يحبون المدينة. لماذا؟ لا اعرف بالتحديد لأنني لست منهم. يقول بعض علماء الاجتماع ان في المدينة حرية للفرد لأن يفعل ما يريد، الحرية الفردية. وفيها سحر المكان، يدّعون. تبهرك فيها الأبنية والساحات ومظاهر الثراء والرفاهية، فتجول فيها هائما على وجهك كالمسافر في عالم الخيال، كما هو الفلم السينمائي. ومن منا لا يحب الأفلام! لكل فلم قصة، ونحن بطبيعتنا نحب ان تروى لنا القصص. نحب كل قصة جيدة وكل نهاية سعيدة، مع انني شخصيا أفضل التراجيديا. لا أعني بذلك النهاية المؤسفة، بل فكرة الخلاص، بشكل أو بآخر، بعد الصراع مع الأقدار.
أحب القرية كما وصفها مؤلفنا العزيز، قرية مثالية، ربما ليست تماما كما في الواقع، وقد تكون أقرب الى المدن اللامرئية التي يصفها الكاتب الإيطالي ايتلو كالفينو. أو ربما أحببت القرية لأن أبي كان يخطفنا الى المزرعة كل صيف بعيدا عن المدينة. ألفنا حياة المزارع منذ الصغر، ونشأنا ببراءة أهل القرية، لا بل أهل المزارع. وكان يعلمنا بأن أهم قيمة هي الصدق، ولشد ما كان لا يطيق الكذب. لكن في المدينة عليك ان تتعلم، ليس ان تتعلم الكذب، لكن أن تقول نصف الحقيقة، أو ربعها، أو أقل، حسبما يقتضيه الموقف.
سئل معماري أميركي مشهور: اين تظن ان نسكن؟ فقال: «اذهب بسيارتك الى ابعد ما يمكن أن تصل اليه، وأسكن هناك. » كان يتبع تراثا عريقا سمح بفتح القارة الأميركية: اتجه غربا Go West! وربما لهذا حديث آخر. المدينة مكان الشرور، والجنة ليست مدينة، بل حديقة. وعندما نزل الوحي على النبي محمد لم يأته في المدينة، بل خارجها، في غار حراء. ولم يتحدث زرادشت في رواية نيتشه الا عندما صعد الى الجبل المقدس. وجال نبي جبران خليل جبران بمواعظه، على غرار السيد المسيح، في الأرياف. والمسيح لقب بالراعي الصالح. أما أمين الريحاني فلما كتب «قلب لبنان» اختار ان يصف قراها وأريافها، لا مدنها. ومفلح العدوان اختار ان يصغي الى بوح القرى. وعبد الرحمن منيف رأى في ناطحات السحاب ما لم يسره. وتوفيق الحكيم ارتأى ان يكتب مذكراته بعنوان «مذكرات نائب في الأرياف.”
مع انطلاق الثورة الصناعية، رأى كارل ماركس المدينة أداة استغلال. استغلال أهل المدن لأهل الارياف. والبريطانيون بمهاراتهم الديبلوماسية، التي تجعلهم يبحثون عن الحلول الوسط (التوفيقية) Pragmatic بحثوا عن المدينة المثالية التي تحقق التوازن بين الريف والمدينة، فابتكروا ما اسموه «المدينة الحدائقية» Garden City. وكان على هذه المدينة ان تحقق التوازن بين حياة الريف (التي يعشقها الانجليز تاريخيا) وحياة المدينة. وكانت من أفضل الأفكار في وقتها. ولفترة طويلة، ظل شعار الدولة السوفياتية، المنجل والمطرقة، الزراعة والصناعة، الريف والمدينة.
يتحدثون اليوم عن «القرية العالمية» Global Village، بمعنى أن وسائل الاتصال السريع قربت بين الناس وجعلت من هذا العالم الكبير قرية صغيرة. هل هذا صحيح؟ من ناحية معينة، هذا صحيح، لكن هل يمكن للعلاقات الافتراضية Virtual ان تحل محل العلاقات المباشرة. من يحب المدينة لن يأبه ان كانت العلاقات الوهمية الخيالية تضاهي العلاقات الاجتماعية المباشرة ام لا، فانضغاط الزمان والمكان بالنسبة له قرّب الأشياء، زمانيا ومكانيا، واعطاه مزيدا من السيطرة، والأهم من ذلك، الحرية. لا يدري صانعو القرار اليوم كيف يضبطون تلك الحرية في الحيز الافتراضي. هل ستكفي القوانين؟ أين هي أركان الجريمة؟ لا أدري. نترك الجواب بين يدي القاضي غنما، مؤلف الكتاب وراوي قصة قريته الوادعة الجميلة.
لا تعطني الحيز الافتراضي، ولا القرية العالمية، فقد انهكتني واتعبتني تلك العوالم. أحن الى القرية، خاصة تلك التي وصفها المؤلف، التي ربما انتقاها من ذاكرته، ووصفها بأفضل مما هي عليه. الكثيرون يعيشون على الأرض ويحلمون بالجنة، اما مؤلفنا فقد وجد فيها جنته، وانا في قراءتي لهذا الكتاب، جعل الأستاذ غنما لي فيها نصيب. فشكرا.