حيتان شريفة”: الوطن الجميل وهو يرزح تحت نير البشاعة

حيتان شريفة”: الوطن الجميل وهو يرزح تحت نير البشاعة


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    أنور محمد

    يضعنا الروائي العُماني محمد بن سيف الرحبي في روايته “حيتان شريفة” (بيت الغشام، سلطنة عُمان، مسقط؛ الآن- ناشرون وموزعون، الأردن، عمَّان، 2018) أمام شبكة سردية تحليلية لا إخبارية. بطلها ماهل بن جمعة الملقَّب بـ(الحوت) الذي هبط أرض سمائل ولا أحد يعرف شيئاً عن أصله وفصله، ليتزوَّج من (شريفة) التي رمتها الأقدار بين يديه، والتي وصفته بأنَّه “جنِّي طلعَ من البحر على شكل إنسان اسمه الحوت، أنجب حيتاناً، تناسلت وتكاثرت”، منها ثلاثة حيتان: مسعود وصالح ومنصور، سينشرون الفساد والشر في سلطنة عُمان، حيث الحوت مسعود يصبح وزيراً لأكثر من خمس عشرة سنة في الوزارة (الفلانية)، ينهب وينهب، ويفتح مجاري لتمرير سيولة/ سيلاً بملايين الريالات تضخ في جيبه وجيوب أخويه وسائر مريديه وأتباعه في الوزارة وشركائه عبر مؤسَّسات مقاولات، ولا أحد يجرؤ على محاسبته.
    يقيم محمد بن سيف الرحبي حركته السردية بتصاعدٍ ناعمٍ للأحداث، تتطوَّر عبر تضادات جوهرية وفعلية. فالحوت الأب ماهل بن جمعة هو سليلُ أو صاحب عقل خبيث لا يرى إلاَّ أناه. حارب مع الإنكليز، وها هو بعد الاستقلال يحاول أن يمحو مع أولاده التاريخ المذهل والنبيل للناس في “حارة المكاتيب” بسمائل، التي هي البذرة الأولى لأحداث الرواية، حيث نتابع صداماً فاعلاً بين الراوي وبين هذه الحيتان أبناء شريفة؛ إذ يتساءل بن سيف كأنَّه يريد أن يوهمنا أننا مع رواية بوليسية بعد أن اجتمع مع رسول الوزير مسعود الذي قرأ الرواية ولا يعرف كيف وصلت إليه وجاء يحاسبه على ما جاء فيها من فضائح: “ولكن كيف عرفَ أنِّي كتبتُ رواية؟!” في حين أنَّه كان يريد مبرِّراً أو حجَّة لكشف أفعال وطباع عائلة الحوت الفظَّة واللاأخلاقية، لأنَّ للروائي/ المثقَّف دوراً مؤثِّراً في تدوين وصياغة الوقائع العاطفية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لأمَّته. والرواية/ الحكاية كما بدأ بن سيف الرحبي روايته وانتهى منها؛ هي فعلٌ يغوص عميقاً في الوجود، فعلٌ يُنتجُ فكراً يتعقَّب الجوهر، باعتبار أنَّ الفكر يتبع ضرورته الاجتماعية. فهو يظهر لنا أنَّ مسعود الوزير ابن الحوت يرى مواطنيه بأنَّهم قطيع حيوانات، فيما يتعامل أخواه صالح ومنصور مع هذا القطيع على أنَّه مخبر تجارب لتسلقهما وصعودهما وتميزهما الاجتماعي، حتى وإن كان منصور جامع الأموال نصاباً ومحتالاً.
    بن سيف يسبر أعماق هذه الحيتان غير الشريفة، فنرى جفاف عواطفها وجشعها ومدى قدرتها
    “منصور الحوت الأصغر الذي لا يخرج من سجن سمائل حتى يعود إليه، قام بعمليات نصب واحتيال عديدة جمعَ منها ثروات، يقول وبتشفٍّ: “مَنْ يقول إنَّ العُمانيين ما عندهم فلوس؟!، خلال أقل من سنة جمعتُ أكثر من 12 مليون ريال من مئة وثلاثة وأربعين شخصاً فقط، مَنْ هؤلاء الذين يدَّعون أنَّهم مساكين وضعفاء””
    على ممارسة القهر المادي والمعنوي على ضحاياها/ مواطنيها وبدم بارد. حتى أنَّ أحدهم، منصور الحوت الأصغر الذي لا يخرج من سجن سمائل حتى يعود إليه، وكان قام بعمليات نصب واحتيال عديدة جمعَ منها ثروات، يقول وبتشفٍّ: “مَنْ يقول إنَّ العُمانيين ما عندهم فلوس؟!، خلال أقل من سنة جمعتُ أكثر من 12 مليون ريال من مئة وثلاثة وأربعين شخصاً فقط، مَنْ هؤلاء الذين يدَّعون أنَّهم مساكين وضعفاء”. مع هذا فهو في مقامٍ آخر سنراه ذاك (الثائر)، فعندما اندلعت إضرابات الربيع العربي 2011 في عُمان انضمَّ إلى المُعارضين ورفع شعارات الثورة والحرية- مُعارضٌ زائف. إنَّه مثل ذاك الذي يقوم بالأعمال القذرة لكنَّه أوَّل مَنْ يأخذ حصَّته من أرباحها. في العُرف القبلي، المُخطئ يهربُ من القبيلة وإن كان (شريفاً)، وإذا ما لاحقته عقدة الذنب فهو يذهبُ إلى أعماق الصحراء لينحرَ نفسه قبل أن تقوم القبيلة بقتله وتطهير شرفها من فِعلته. فإذا كان ماهل بن جمعة الحوتُ الكبير، وكذلك أولاده، لا قبيلةَ لهم ولا عشيرةَ ينتسبون إليها، كما بيَّن بن سيف الرحبي على مدار الزمن الروائي، فكيف لنا أن نطالبهم وقد ارتكبوا مجازر بحق المال العام للدولة والخاص للناس أن يُعاقبوا أنفسهم بالانتحار؟.
    الدفاع عن الجمال
    يرينا محمد بن سيف الرحبي، في تتبعه لسيرة الحيتان أولاد شريفة التي أرضعت أغلب مواليد حارة المكاتيب من صدرها، في روايته، الوطنَ (الجميل) وهو يرزح تحت نير البشاعة، وهذا ما دعاه لأن يدافع عن الجمال، وهو الأمر الذي استفزَّ وأغضب الوزير مسعود، فأرسل ثانية
    “يتصادم محمد بن سيف الرحبي في روايته “حيتان شريفة” مع البشاعة، إنَّها معركته، لأنَّ الامتناع عن المقاومة لا يهزم العنف، بل يشرعن المذابح”
    أحد أتباعه ليهدَّد الروائي بأنَّ الوزير وبصفته الشخصية سيرفع عليه قضية، وأنَّ الوزير عندما يرفع قضية على مواطن خاصة إذا كان (كاتباً) سيغدو الخاسر على كلِّ لسان. ثمَّ يسأل التابعُ الكاتبَ: “وما يُدريك أنَّ مسعود ليس شريفاً؟ هل تعرفه شخصياً؟ هل تعرف مواقفه المشرِّفة عندما كان وزيراً. إنَّ مسعود يا أخي العزيز خدمَ وطنه كما لم يخدمه أيُّ مسؤول آخر في البلد، أفنى أجمل سنوات حياته من أجل الوطن والمواطن، وبعد هذا كله يأتي مَنْ يسيء إليه، هذا لا يجوز عند الله سبحانه وتعالى، يكفي عدد المساجد التي بناها، وأنتَ تعرفُ جزاء مَنْ يفعل ذلك، بكلِّ مسجدٍ لهُ قصرٌ في الجنَّة، ولا يعمرُ مساجد الله إلاَّ مَنْ آمن بالله واليوم الآخر”.
    يرفع بن سيف درجة التوتر الروائي، ففي ردِّ التابع على الروائي نلاحظ انتقاله من جريمة إلى جريمة وهو يبرِّر لوزيره أفعاله (الملائكية)، حتى إنَّه من كثرتها حجز له قصوراً وقصوراً في الجنَّة. فالله، الله يكافئه، فكيف أنت يا (الكاتب) تُعاقبه؟. إنَّها السخرية السياسية التي تمزج الواقعي بالخيالي في الرواية، فـ(السامي) يتعرَّض للإذلال، ومن قوى غير أخلاقية. هل محكومٌ علينا بالألم على أنَّه مضمون الحياة الحقيقي، باعتبار أنَّ الشر هو الذي يسود هذه الحياة؟ كأنَّه السؤال المركزي الذي تطرحه الرواية. فالإنسان عندما يستقوي بالسلطة كما يصوِّره بن سيف هو في جوهره حيوانٌ مفترس، وإِنِ التَحَفَ أو تزنَّرَ أو تزيَّنَ بـ(المدنية)، فها هو القاتل يداه ملطختان بالدماء، وها هو يصلي.
    يتصادم محمد بن سيف الرحبي في روايته “حيتان شريفة” مع البشاعة، إنَّها معركته، لأنَّ الامتناع عن المقاومة لا يهزم العنف، بل يشرعن المذابح، وهذا ما كان يقلق ويخيف الوزير مسعود الذي استدعى المؤلِّف إلى مكتبه ليطمئن إنْ كان قد عزفَ عن كتابة الرواية، كونها تكشفُ عن جرائمه سائلاً إيَّاه: كيف مشروع روايتك الجديدة؟ هل ما زلت تكتبها ومصراً عليها؟ فيُجيبه: لقد انتهيتُ من كتابتها، وسأحاول إقناع الرقابة بإجازتها.