إعداد الدكتورة؛ منتهى الطراونة
( كِرك موبا ) ؛ الفكرة المختمرة في ذهن الكاتب التي تحولت إلى مشروع روائي احتل موقعه في الساحة الثقافية ، وحظي بالاهتمام .
الكاتب الذي يمتلك حرفية عالية في بناء الشخصيات التي تقاطعت مع الشخصيات التاريخية الحقيقية ، مع اختلاف في بعض التفاصيل الجزئية التي جاءت من خيال الكاتب وإبداعه .
( كِرك موبا ) ؛ رواية تاريخية اتسمت بسبك سردي تجلّى في سبر عمق تاريخ المدينة العريقة ، وأسرار بعض أماكنها ، وتعامل فيها مع بعض الوثائق التاريخية ، لكنه ذهب إلى أبعد من هذه الوثائق لأنه ابن المكان المتوحد فيه ، ويعرف شخوصه التي عاشت فيه ، ويعرف تفاصيلها الدقيقة ، وكأنه يصور فيلماً تاريخياً ، لا يكتب رواية فحسب .
يقول شكسبير : ماذا تكون المدينة سوى البشر ؟!
وأعاد لنا الكاتب عبر هذا الإبداع الروائي ؛ اكتشاف المدينة ، وعلاقة الإنسان فيها بالمكان ، وأظهر أن المدينة ليست مجرد بنايات وشوارع وأسوار وحصون وحارات وميادين ، إنما هي روح خلّاقة تتبلور على شكل تجليات متعددة وظّف فيها ؛ اللغة ، والأسطورة ، والتراث المقدس ، والفن ، والأدب .
لن أتردد في القول أن الكاتب يؤمن بأن الرواية تسهم في أن تستعيد المدن روحها التي تتشكل من أرواح البشر القاطنين فيها ، تتأثر بهم ، ويتأثرون بها .
لن أتحدث عن الكاتب ؛ فشخصيته تظهر من خلال النسيج الروائي الذي قدمه في روايته ، والقاريء الفطن تتسلل إليه روحه عبر كل المواقف ، والأماكن ، والشخوص ، والآراء المتضمنة تلميحاً لا تصريحاً !
ولن أتحدث عن المهدى إليه ؛ فهو رمز من رموز الكرك ، وومضة إنسانية لمعت زمناً ثم مضت وبقي بريقها …..
أما العنوان ( كِرك موبا ) ؛ فما إن تسمع به حتى تلمع في ذهنك كل حكايات المدن ، وأقول إنها تصطف جنباً إلى جنب مع مدن محدودة تناولها الأدب والأدباء ، مثل قاهرة نجيب محفوظ ، ولندن تشارلز ديكنز !
فالعلاقة بين الرواية والمكان علاقة حتمية ، وعلاقة وجود ، لأنها بناء درامي متكامل ، يتمكن فيه الكاتب من خلق عالم تتفاعل فيه الشخوص ، والأحداث ، والأماكن التي تمثل المسرح الحقيقي الذي تجري عليه تلك الأحداث .
والرواية في مجملها ترصد علاقة إنسان ما بمكان ما وتاريخ ما ، وهذا الرصد سلط فيه الكاتب الضوء على شخوص روايته ؛ ( أنجيلا ) ؛ الباحثة التي تتقن العربية ، و( صخر ) ؛ المخرج الذي يتقن الفرنسية ، ولحظة تعارفهما عند برج ( الظاهر ) ، و( مصباح ) الذي أحب ( قمر ) ووقف اختلاف الدين عائقاً أمام ارتباطهما ، وهو من وجهة نظري أقوى العوائق ، مع إن الكاتب حاول إبراز مدى التعايش والانسجام بين الناس في الكرك ، التي ما زالت العلاقات فيها مثالاً يحتذى ، كل يمارس دينه بحرية تامة …
سلط الكاتب الضوء على موروث شعبي يقول ؛ فلانة لفلان ، وفلان لفلانة ، منذ الطفولة في إشارة يخلقها الأهل دون أن يتنبهوا لأنها تنمو مع الأطفال ، ويقرها عقلهم الباطن ، ويسعون لجعلها حقيقة ، وربما يواجهون المشكلات الكبيرة نتاجها مثلما حصل مع ( مصباح وقمر ) الذي شاهدناه في تطور الأحداث ، وتعقدها حتى النهاية ( المتوقعة ) التي ربما رفضها البعض لكنها الحقيقة .
عندما توقف الكاتب عند شذرات من تاريخ المدينة ، أحسن استحضار ( ميشع ) الملك المؤابي ، وابنه شيحا الذي قدمه قرباناً حين دافع عن المدينة امام العبرانيين ، وهنا كنت أتوقع منه أن يذكر شيئاً عن أحد الأحفاد ؛ ( إبراهيم الضمور ) الذي قدم ولديه فداء وقرباناً للوفاء والحماية ، لكنه لم يفعل !
عرض الكاتب لحقبة أرناط وأطماعه ، وحلل شخصيته السيئة من خلال الإشارة لبعض المواقف .
تعمق الكاتب ووصل إلى نفوس شخوصه ، وما يحدث معها من صراعات داخلية كشفت عنها المواقف التي كانت تستند إلى تركيبة المجتمع العربي بشكل عام ، والكركي بشكل خاص ، ومنها أن الشيخ يتدخل لحل مشاكل الناس حتى العاطفية منها !
ونجح الكاتب في منحها الغلاف السياسي ، الذي ظهر من خلال موالاة الشيخ محمد للسلطة العثمانية عندما جاء للشيخ مفلح لاسترداد قمر ..
واظهر الكاتب الموروث الذي ما زال عنواناً للمجتمعات العربية المحافظة ، وهو أن الأخ هو أولى الناس بغسل عار أخته إن ارتكبت خطيئة ، دون أن يتحقق من حدوثها فعلاً !
نجح الكاتب في الربط بين الكرك والقدس ، عبر رسائل المدينة بين أنجيلا وصخر ، ومن خلال أحداث أخرى …
توقف الكاتب في إشارات كثيرة عند الأطماع الاستعمارية للغرب ، والتي ما زالت إلى اليوم عبر حقيقة ( جوناثان ) ؛ رئيس البعثة الذي حاول إثبات وجود العبرانيين في المنطقة من خلال قطعة فخارية ، لكن ذكاء الكركي البسيط ، وحرصه اوقف المحاولة .
مرّ الكاتب على كل القيم العربية الأصيلة المتمثلة في روح كرك موبا ، التي برزت عند بعض الشخوص ، وما تمتعوا به من صفات ، وظهرت في رسائل ( صخر ) ؛ المؤابي الحر ، الأبيّ ، القوي ل ( أنجيلا ) .
لم يغفل الكاتب عن الانطلاق من ( كرك موبا ) إلى لبنان المقاوم ، عبر شخصية كركية حقيقية اختارها بعناية ؛ ( أحمد المجالي )
وإلى فلسطين السليبة عبر شخصية نسائية كركية ؛ ( تيريز هلسا ) فكانت الكرك نقطة التنوير القومية ، وما زالت !
نجح الكاتب في نقل فكرة أن الحب الحقيقي لا يمكن أن يموت وإن غفى فإنه يستفيق عند أول منعطف ، وتمثل ذلك في لقاء قمر بحفيدة مصباح التي تسري فيها روح ( كرك موبا ) المعتدة القوية ، مما يؤكد أن المدن ترسل رسائلها القيمية عبر من تسكنهم روحها !
وفي الختام في رسالة مني للكاتب أقول ؛ إنني سافرت عبر هذه الرواية إلى أعماق روحي ، وسبرت عالمي الداخلي ، وما بي من شغف ، وحماسة لتلقي رسائل المدن التي أحببت ، وإنني أحياناً لم أكن أرى حروفها ، فقد حجب ضباب الدمع عني الرؤية وتساءلت ؛ لماذا يقتل الناس الحب ويحاربونه بكل ما لديهم من قسوة ؟!
في لحظات ما استوقفني السرد واستوقفتني فيه لوحات أدبية تشبه مقطوعات موسيقية يترنم عليها القلب حزناً !