وكالة وطن للأنباء
نحن الفلسطينيون، وأحرار العالم، تعرفنا من خلال الأدبيات الثورية إلى المناضل الأممي تشي جيفارا، رفيق فيدل كاسترو، بصفتهما بطلا الثورة الكوبية، وثورات أميركا اللاتينية. لكن، وللأسف، لم يعرف منا إلا القليل القليل عن البطل الفلسطيني الأممي أنطونيو التلحمي، وهو رفيق تشي جيفارا وفيدل كاسترو؛ حيث كان دوره في الثورة الكوبية لا يقل أهمية عن دور كل من جيفارا وكاسترو.
الرفيق أنطونيو التلحمي، مناضل أممي- فلسطيني-كولومبي، حارب الصهاينة في فلسطين، وحارب الإمبريالية وعملاء الأميركان في كوبا، جنبًا إلى جنب مع جيفارا وكاسترو، ليس فقط في حرب العصابات الميدانية، بل أيضًا في عمليات تدريب ثوار أميركا اللاتينية عامة، والثوار الكوبيين بشكل خاص. هذا ما أفادنا به الكاتب والشاعر الفلسطيني الكبير د. سميح مسعود في كتابه، بل في ملحمته التي جاءت بعنوان “أنطونيو التلحمي رفيق تشي جيفارا”، الصادر عن الآن ناشرون وموزعون في الأردن العام 2020.
يتحدث الكتاب عن حياة أنطونيو التلحمي كما رواها في عشر جلسات، التي تم تسجيلها على 15 كاسيتًا، بحضور الكاتب مسعود، وصديقه فاضل العراقي؛ حيث تمت عملية التسجيل قبل وفاة أنطونيو بثلاثة أيام في الكويت في العام 1969. كاتبنا الكبير العظيم سميح مسعود، وبعد سنوات عدة، التقى صديقه فاضل في ألمانيا، وحصل على الكاسيتات، وقام بعملية تفريغها، وكتابتها، والحفاظ على ما جاء فيها، ووضعها في هذه المخطوطة الملحمية التي حملت عنوان الكتاب “أنطونيو التلحمي رفيق تشي جيفارا”، الذي يقع في 244 صفحة من الحجم المتوسط.
بالمناسبة، أنصح من يريد قراءة الكتاب أن يخطط لذلك مسبقًا، وعليه تخصيص يوم كامل لذلك؛ لأن من يبدأ بالقراءة لا يستطيع ترك الكتاب، فهو عبارة عن مغناطيس يجذب عيون القراء وعقولهم، كونه محيط من المعلومات، ويحتوي على بحار من المغامرات، وأنهر من المفاجآت.
باختصار، قصة أنطونيو التلحمي، الذي عرف أيضًا باسم أنطونيو الكولومبي، تبدأ من سفر جده سليم داوود من بيت لحم إلى أميركا طلبًا للرزق في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، إلا أن الباخرة “مس ليديا” توقفت في بنما، وقيل للفقراء من المسافرين أن هذه هي أميركا. بدأت حياة جد أنطونيو من هناك، من بنما الذي اكتشف بعد أيام عدة أن بنما جزءٌ من دولة فيدرالية تسمى الولايات المتحدة الكولومبية. استقر جده هناك، وعمل بجهد كبير للحفاظ على حياته وحياة أبنائه. والمهم في عملة، اكتشف–وحده – بوعيه الإنساني أن الرأسمالية وعملاء الأميركان هم مصاصو دماء الفقراء. كان جد أنطونيو يتحدث عن الاستغلال والصراع الطبقي بوصفه مُنظرًا يساريًا من دون أن يعرف شيئًا عن الماركسية.
إنها قصة طويلة، لكن ما يهمني في هذا المقال تأثير الجد على فكر أنطونيو بطل قصتنا، وتوجهاته، ونضالاته؛ حيث ملخص رسالة الجد نقطتان، بل قضيتان اعتبرتا كوصية لأنطونيو من جده الذي أحبه حتى الثمالة: الأولى حفر في عقل ووجدان أنطونيو أنه فلسطيني، ومن جذور فلسطينية أصيلة. وبالتالي، عليه وضع القضية الفلسطينية على رأس أولوياته، وأن تكون جزءًا من حياته. أما القضية الثانية فهي أهمية وضرورة وواجب النضال ضد جشع الرأسمالية والاستغلال لإسقاطهما، وتحقيق أنظمة سياسية تحقق العدالة الاجتماعية، وبعيدة عن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
بالفعل، سار أنطونيو على هذين المسارين، فكان إنسانًا ذا قلبين، قلب فلسطيني لمقاومة الاحتلال، وقلب كولومبي لمقاومة الدكتاتورية والاستغلال وعملاء الإمبريالية. فيما يتعلق بالمسار الأول، وخلال الثورة الفلسطينية 1936-1939، وعلى الرغم من عدم معرفته جيدًا باللغة العربية فإن أنطونيو ترك كولومبيا وتوجه إلى فلسطين للانضمام إلى الثورة؛ حيث وصل إلى جنين، والتقى بالثائر أبو كمال، وعمل في جهاز الشرطة الفلسطينية الانتدابية في قُبانية “تِرسَلة” قضاء جنين، وكان يُزَوِد الثوار، آنذاك، بتحركات الإنجليز وسياساتهم. وبعد رجوعه إلى كولومبيا، كان قد انضم إلى الثوار هناك لمقاومة الدكتاتورية. وفي أواخر أربعينيات القرن الماضي، لم يستطع أنطونيو البقاء في كولومبيا، بل رجع ثانية إلى فلسطين، وانضم إلى الجهاد المقدس، وشارك مع عبد القادر الحسيني في معركة القسطل، وعمل سائقًا لدى القنصل الأميركي في القدس بصفته مواطنا كولومبيا، وهو الذي فجّر المكاتب الرئيسية للوكالة اليهودية في القدس في العام 1948 من خلال تفخيخ سيارة السفير. ومع انتهاء الحرب وقيام دولة الاحتلال، تم تهريبه إلى غزة، ثم إلى مصر، ورجع إلى كولومبيا، لكنه سرعان ما عاد للمرة الثالثة إلى الأردن، وانضم إلى إحدى القوى الفلسطينية اليسارية، وشارك في معركة الكرامة، وكان سعيدًا لتحقيق ذلك الانتصار الأردني-الفلسطيني.
كما ذكرت سابقًا أن لأنطونيو قلبين، فلسطيني وآخر كولومبي، وخلال وجوده في كولومبيا تعرف بالصدفة إلى تشي جيفارا في العام 1952، في ساحة دي بوليفارفي بوغوتا، بعد يوم واحد من خروجه من السجن؛ حيث كان جيفارا يقوم بجولات ميدانية في دول أميركا اللاتينية للتعرف عن قرب إلى أوضاع الناس واحتياجاتهم، وإلى قوة الأعداء.
كان ذلك اللقاء بداية لعلاقة إنسانية ثورية ما بين تشي جيفارا وتشي التلحمي (تشي تعني “رفيق” بالإسبانية)، وباشرا في معاركهما المتعددة في أميركا اللاتينية، وبعدها تعرفا إلى فيدل كاسترو، وتوطدت العلاقات بين ثلاثتهما في التخطيط والعمل؛ حيث طلب كاسترو من التلحمي بصفته ذا خبرة في القتال وحرب العصابات أن يقوم بتدريب الثوار الأمميين، ورفاق الثورة الكوبية. طبيعي وبكل سرور، لبى التلحمي الواجب، ودرّب المئات على حرب العصابات. وبالمناسبة، عدد كبير منا يعرف عن القارب “غرانما الأزرق”، الذي أكل الدهر عليه وشرب، والذي عاد على متنه جيفارا وكاسترو والتلحمي مع 79 ثائرًا كوبيًا من المكسيك إلى كوبا. كانت تلك الرحلة تعتبر رحلة عودة الثوار بالرغم انها كانت كما وصفها التلحمي مخيفة، لأن “غرانما الأزرق” كان كالريشة بين الأمواج.
وبعد وصول الثوار كما يروي الرفيق أنطونيو، قام الرفاق الثلاثة بتقسيم الثوار إلى مجموعات صغيرة، لكل مجموعة مهمة محددة في منطقة معينة. إنها حرب عصابات، حرب في الأدغال، حرب قادتها مجموعات وطنية احترقت لتضيء شمس الحرية على الأرض الكوبية. وبالفعل، حصل ذلك، وانتصرت الثورة، وكان رفيقنا التلحمي قياديًا من المستوى الأول. وبعد انتصار الثورة، قام جيفارا بالتوجه إلى المحطة الثانية، إلى بوليفيا برفقة التلحمي ومجموعات من المناضلين. وفي خضم المعارك هناك كان التلحمي يستمع إلى أخبار فلسطين، النكسة 1967، وبعد عام كما أسلفت عاد إلى عمان وانخرط في صفوف الثورة وانتصر مع رفاقه في معركة الكرامة.
هذا هو الرفيق أنطونيو التلحمي الذي عَرَفنا إليه كاتبنا الكبير د. سميح مسعود، الذي تابع وبحث وتعرف إلى حيثيات مناضلنا الأممي المعروف جيدًا في أميركا اللاتينية كغيره من عظماء الثورة في كوبا، إلا أنه ليس معروفًا في فلسطين، فتلبية لنداء الوطن، ولشحذ الهمم، قام الكاتب بإصدار هذا الكتاب ليقول لشعبنا وللعالم إن شعبنا الفلسطيني بكل اطيافه مسلمين ومسيحيين وعلمانيين ويساريين ثائر يتوق إلى الحرية، والتلحمي هو نموذج للثورة التي ليس لها حدود جغرافية، فأنطونيو التلحمي ثائر أممي، وقضيتنا الوطنية أيضًا ذات بعد أممي مدعومة من كل أحرار العالم، وما نعيشه اليوم في ظل قيادات ليست ثائرة ولا تعرف أهمية الدعم العالمي من أحرار العالم؛ جاء مسعود ليقول لنا: “كونوا مثل أنطونيو التلحمي؛ لأن الحرية والاستقلال بحاجة إلى التضحية والمخاطرة، وليس للمغامرات الصبيانية، والاهتمام بالأمور الشخصية والحزبية”.