استدعاء المكان في الكتابة بين الحنين والتوثيق

استدعاء المكان في الكتابة بين الحنين والتوثيق


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    خالد علي المعمري
    جريدة “عمان”

    يحيا الكاتبُ بالكتابة، ويعود بها إلى المكان وإلى الماضي مُتّخذاً منهما استعادة وذاكرة للإنسان وللحياة. كما تأخذنا الكتابة إلى عالمنا الأول الذي وجدنا أنفسنا مُحاطين بجمالياته وأغانيه وملامح تركيبة سكانه وجغرافيته وعادات أهله وتقاليدهم، ثم نستعيد بالكتابة اللحظات والذكريات لنسطّرها للأجيال اللاحقة مشكّلين نصوصاً تحفل بالذاكرة الزمكانية.
    في هذا المضمون تُحيلنا كتبٌ مثل كتاب (الخضراء) لمحمد الصالحي الصادر عام 2022م عن الآن ناشرون وموزعون والجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء، وكتاب (مقنيات) لعادل الكلباني الصادر عام 2014م عن دار مسعى للنشر والتوزيع، وكتاب (بلدة مجيس العمانية) لحسن الهنيامي الصادر عام 2014م عن الدار العربية للموسوعات، تحيلنا هذه الكتب على المكان الأول المتمثل في القرية وعوالمها الصغيرة، وعادات أهلها، وأمكنتها التي اندثر بعضها وبقي بعضها الآخر، متخذةً من هذه الأمكنة مرجعية مهمة في تشكيل نصوصها باعتبارها ثقافة تستند عليها، وواقعاً تنهض به أثناء الكتابة لاستعادة الماضي في تحقيق رؤية كتابية جديدة.
    تنهض الكتابة عن المكان الأول في الكتب السابقة باتخاذ القرى منطلقاً للكتابة وللسرد، وتأتي أهميتها في الكتابة والتأليف بانتقاء العتبة/ العنوان الذي يحمل إشارة إلى المكان/ القرية التي ينطلقون منها في الكتابة. والملاحظ في عتبات الكتب السابقة أنها انطلقت من عنوانين اثنين: عنوانٍ رئيسٍ يحمل اسم البلدة، وعنوانٍ فرعي يوضّح الكاتب منه بعض المنطلقات المهمة حول الاسم، فنجد الصالحي يصف الخضراء بلؤلؤة النهار وتغريبة المساء، وهو وصف جمالي أدبي في تشكيل ملامح بلدته. أما الكلباني فوصف مقنيات بأنها وطنٌ وطفولةٌ، وفي العنوان إحالةٌ على الذاكرة وزمن الطفولة. وجاء عنوان الهنيامي الفرعي معبّراً عن مرجعية الحياة في بلدة مجيس الساحلية بتناول تاريخها وجغرافيتها وعلمائها وشيوخها وأعيانها وعاداتها وتقاليدها.
    ويبدو أن الكُتّابَ لم يكتفوا بعنوانهم الرئيس لمؤلفاتهم بل اتجهوا لإضافة إشارة دلالية للانطلاق في عالم الكتابة المكاني، ولإرشاد القارئ أنّ هناك مضامين للكشف عنها بين السطور.
    تتوزع كتابات الصالحي والكلباني والهنيامي عن المكان في اتجاهين اثنين: اتجاهٍ أول متمثل في الحنين إلى المكان الأول واستدعائه من الماضي، وحوادثه الأولى، وحكايات أهله إلى الحاضر، فتقوم دلالات الحنين بالتفاعل مع الكتابة بإيجاد عاطفة كبيرة في ذاكرة الشخصيات والأمكنة والحكايات المستعادة، لا سيما أنها ربما قد فُقِدت بمرور الزمن وتقادُمِ العهد. أما الاتجاه الآخر فيتمثل في التوثيق الكتابي الذي من خلاله عمل المؤلف على حفظ ذاكرة المكان وعادات أهله وحكاياتهم وموروثهم حتى لا يطالها النسيان والتقادم، لذا تنطلق الكتب السابقة مؤثثة لعالم قريتها البكر، ومصورة البيئة العمانية في صورتها الأولى التي ربما لم تشهدها كثير من الأجيال الحديثة في محاولة لربطهم بالماضي والتاريخ والقيم والموروث العماني.
    يطوف بنا الشاعر محمد الصالحي في عوالم بلدة الخضراء بولاية السويق متخذاً من شخصيات أهلها ذاكرة أولى ينطلق منها، ولا يكتفي الصالحي في تقديم شخصياته بالتوثيق لهم ولمراحل من حياتهم ولدورهم في البلدة، بل يمزج مع ذلك السرد الشائق الذي تظهر فيه المَلَكةُ الأدبية للشاعر لا سيما وأنه استهلّ كل شخصية بمدخل شعري يدل على ثقافته واقترابه من موضوعه وفكرته.
    يجذب الصالحي في تقديمه لشخصية “الغريب: مبارك بن سعيد دلاويز” القارئَ معه بسرد شائق بسيط يفتتحه بعبارة “يحكى أنّ”، وهذه العبارة تكرّرت في أكثر من موضوع في الكتاب دلالةً على التنويع في أساليب عرضه للشخصيات وجذبه للقارئ. إنّ حكاية الغريب في بنائها سردٌ حكائي قائم على تواتر الحكايات على ألسنة الناس، آثر الصالحي تخليدها كتابياً، وهكذا في أغلب الشخصيات التي تناولها، اعتمد على المزج بين صنع الحكايات وبين إيجاد معلومات عن الشخصية. وفي عرضه لشخصية “الشاووش جميل بن يوسف البلوشي” فإنه يمزج بين السرد الشائق وبين الأساطير والحكايات الشعبية بعرض حكاية “أحد الهنود الهندوس الذي ابتلاه الله بمرض في بطنه، ورأى في أحد مناماته أنه يشرب من ماء قريب من ضريح العيدروس في عدن وأنه علاج لمرضه”، وبشربه من الماء شُفي وأعلن إسلامه وقرر بناء مسجد وصنع بابه في الهند، وأرسله على متن سفينة إلى عمان، وفي الطريق صادفت السفينة عاصفة فقرر النوخذة رمي بعض الحمولة للتخفيف، فرمى البحارة الكثير من الحمولة واستبقوا الباب لأنه لمسجد، لكن بعد ذلك قرر النوخذة رميه في البحر، فقال أحدهم: إنه لولي الله العيدروس. فقال النوخذة: إذا كان العيدروس ولياً مكرما عند الله فسوف نجد الباب في عدن. بعد مدة سافرت السفينة إلى عدن وعندما سألوا عن الباب، قال أحدهم لقد وجدنا الباب أمام المسجد. (ص:95)
    لقد قدّم الصالحي صورة وافية عن بلدة الخضراء بكتابته عن الإنسان فيها في فصلٍ أول من الكتاب، وعن المكان في فصل ثانٍ، وعن الأساطير التي وُجدت فيها في فصلٍ ثالث. إنّ الفصول الثلاثة متداخلة فيما بينها ولا يمكن فصلها عن بعضها، فالإنسان والمكان والحكاية التراثية محاور تشكّلتْ في بلدة الخضراء، وامتزجت بثقافة البلدة وتاريخها وهويتها، وقد استطاع الصالحي تقديمها تقديماً فنياً وبلغة بسيطة تنزاح إلى الجمال كثيراً، فتنوعت الأمكنة بين الواقعية والتي دارت حولها الحكايات الأسطورية، وتعدّدت الشخصيات بين أهل الخير والصلاح والرياضيين والبحارة والتجار والموهوبين والنساء وغيرهم، كما قدّمت الأسطورة جانباً مرجعياً يمكن أن يشتغل عليه الباحثون مستقبلا، ويُعيدوا البحث فيه في سياق الدراسات الشفهية التي أنتجت مؤخراً.
    أما مقنيات عند الشاعر والكاتب عادل الكلباني فهو كتاب أقرب إلى السيرة الذاتية منه إلى قراءة في المكان، وإن حمل الكتاب اسم بلدة مقنيات بولاية عبري. لقد ركّز الكلباني تركيزاً كبيراً على حياته فيها فترة طفولته وما بعدها. إنّ ما يميّز الكتاب هو انجذاب لغة الكاتب إلى السرد الأدبي المحمّل بتيارات الشعر؛ فقد استطاع الكلباني الوصول إلى عوالمه الداخلية والكشف عن المخبوء فيها بعرضه لسيرة طفلٍ/ طالبٍ سيصبح لاحقاً كاتباً وشاعراً في المشهد الأدبي العماني. ويبدو أنّ الكلباني اهتمَّ كثيراً بجعل القرية مرجعيةً ينطلق منها في سرده، فبالإضافة إلى كتابه هذا عن مقنيات نجد كتبه (الحصن الأسود) الذي يحمل اسم الحصن الذي اشتهرت به مقنيات، والذي بناه الملك فلاح بن محسن النبهاني، وكتابه (بيت السيح) وقد أخذ اسمه من البيت الذي كان يسكنه الكاتب، ويقول عنه: “كنا نسكن في منزل يسمونه بيت السيح ضاعت معالمه في الغياب وانتهى تاريخاً ونفوذاً. وكان يُعتبر إذ ذاك أبعد بيوت البلدة. في مقدمته سدرتان ضخمتان ما زالتا إلى الآن تعبقان باخضرار المروج وتعانقان السماء في شكر، أقدر أنهما زرعتا منذ مئات السنين. وكان بيت السيح مثل قلعة دائرية تحيط بها أسوار عالية من الطين…”. (مقنيات: ص17).
    لقد اهتمّ الكلباني في كتابه بسرد تفاصيل دقيقة من حياته، لعلّ أهمها حادثة مرضه التي عرضها في أكثر من موضع، فعند حديثه عن طفولته يعرض تفاصيل إصابته بالشلل وعلاجه بالطب الشعبي بعد أن قالوا أنّ عيناً أو حسداً قد أصابه، ثم بعد ذلك يذكر رحلة علاجه في أبوظبي. لقد بقيت ذاكرة تفاصيل مرضه ترافق الكاتب طيلة سرد الأحداث يسترجع ذاكرتها إما ساخراً من حاله أو مبينا وضعه في مواجهة الحياة، فنجده يستعير عبارات مثل: “ويمشي في الحلقة كالمعاق مثلي”، و”فأنا أمسك التاير باليمين والرِّجْل بالشمال أسير به على مهل”، و”برغم أني كنتُ أعرج”، و”الأخرى أمسك بها رجلي كعكاز”، و”فقلتُ له: إنني طالب معاق لا أقدر على اللعب ولا أستطيعه”، و”مشينا ثلاثتنا في ذلك الليل وأنا أخمع برجل واحدة…”، وسيسرد لنا بعد ذلك رحلة علاجه في مستشفى خولة بأسلوب طريف وشائق ورفضه العلاج وإجراء العملية بعد علمه عدم قدرة الأطباء على علاج طفلة صغيرة فكيف لهم علاجه هو؟
    لقد قدّم الكلباني سرداً حكائياً دقيقاً عن الإنسان القابع في بيئة قروية، ونقل لنا تفاصيل سردية عن الإنسان وعاداته وثقافته، فكانت أساطيره حاضرة، وتكيفه مع بيئته حاضر أيضا، وحضور أنواع العلاج الشعبي، وحضور طقوس العيد والألعاب والتعليم وذكر الحيوانات والهوام وغيرها من التفاصيل المرتبطة بسرد الذات.
    أما كتاب (بلدة مجيس العمانية) للهنيامي فيختلف اختلافاً كلياً عن سابقَيْهِ من حيث اعتماده على التوثيق أكثر من السرد وتفاصيل الحكي. إذ يركّز الهنيامي على المعلومة فيستخرجها إما من مصادرها الشفهية أو المكتوبة ويقدّمها إلى القارئ بلغة الموثّق، كما يقدّم صورة مفصلة عن التراث ومرجعياته فيتناول الصيد البحري والزراعة والصناعات والحرف التقليدية والتقاليد والفنون الشعبية والعلماء والشيوخ والأعيان في بلدة مجيس بولاية صحار.
    إنّ تقديمه للشيوخ والعلماء والأعيان على سبيل المثال يختلف اختلافاً كبيراً عنه في كتاب (الخضراء) للصالحي، فالصالحي يشتغل على السرد بجانب جمع المعلومات ليقدّم نصاً أدبياً قائماً على الاشتغال الفني أكثر من تقديم المعلومة، أما الهنيامي فقد اعتمد على جمع المعلومات من مصادرها وتقديمها بلغة الراصد والموثق فكان تقديمه مباشراً بعيدا عن الخيال والاشتغال على الأسلوب الفني.
    إنّ الهنيامي في أسلوبه هذا يهدف إلى جمع المعلومة حتى لا تطالها يد النسيان والإتيان بها من ذاكرتها الجمعية، فكان الاهتمام على التوثيق أكثر من اشتغالات اللغة وفنياتها. وسيتضح هذا الدور بتوليه مهمة جمع وتوثيق معلومات أخرى وإصدار كتب في الموضوع ذاته عن ولاية صحار، وعن ولاية لوى صدرا بعد كتاب مجيس.
    إنّ استدعاء المكان بتفاصيله مهمةٌ شاقة ولا شك؛ إذ تقوم على استرجاع الماضي وإعادة تشكيله في الحاضر، وبثّ روح الحياة في زمنٍ مضى. لقد أدرك الكُتّاب هذه المهمة وهذا الاشتغال فعملوا، بأسلوبهم الخاص، على تقديم نصوص تُحيل على الواقع الإنساني في فترة من فترات الحياة في المجتمع العماني.
    لقد عشنا تفاصيل وأحداثاً وذاكرة مهمة عن الإنسان العماني ومكانه في مثل هذه المؤلفات، لكن يراودني سؤال مهم: لماذا يلجأ الكاتب إلى الماضي والنبش فيه وإعادته من جديد؟ هل هو الحنين إلى زمن مضى أو هي الحاجة إلى توثيق وترميم الذاكرة؟ أو أنّ الحاضر بكل جديده لم يُشبع رغبة الكُتّاب فاستعانوا بحضور ماضيهم إلى حاضرهم؟