الأمازيغية التونسية (غْـرِيبَا) … ليست غــريبة

الأمازيغية التونسية (غْـرِيبَا) … ليست غــريبة


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    يونس شعبان الفنادي

    بعد نيل رواية (الطلياني) للأديب التونسي شكري المبخوت جائزة البوكر العالمية للرواية العربية سنة 2015م، ورواية (مرايا الغياب) للأديبة نبيلة العيسي جائزة الكومار الذهبي للرواية التونسية سنة 2016م، ووصول رواية (الملائكة لا تطير) للأديبة فاطمة بن محمود للقائمة القصيرة لجائزة راشد الشرقي للإبداع سنة 2019م، وقبلهم اختيار رواية (تماس) للمبدعة عروسية النالوتي ضمن أفضل مائة رواية عربية، تحوّلت بوصلة الرواية العربية للاتجاه صوب الفضاء الإبداعي التونسي، والذي بطبيعته قادني إلى التعرف على بعض ملامح وخصائص الأعمال السردية التونسية القصصية والروائية من حيث أفكارها ومضامينها وتقنياتها، ومن خلال ذلك أنجزتُ هذه القراءة الإنطباعية موضوع المقالة حول إحدى الروايات النسوية التونسية الصادرة حديثاً.
    (2)
    على نهج الأديب التونسي الكبير محمود المسعدي الذي تؤكده مقولته التشخيصية للحالة الفكرية الذاتية والمجتمعية الراهنة (نحنُ جيلُ المأساة وجيلُ الخلاص معاً، إذا لم نعمل ولم نعدّ ونستعدّ فلا أمل لنا بمحو وصمةِ العارِ التي يحملُهَا كُلٌّ منّا) اختارت الأديبة حياة حسين البوسالمي تسخير فكرها الحالم، وقلمها المبدع لتبني تلك الدعوة، والعمل المثابر الدؤوب، من أجل نفض أغبرة المأساة وخلع أثواب الهزيمة، وتحمُّل أعباء التخلص من إرثها البغيض ومسح صور عارها المشين وآثارها المأساوية الملاحقة لحاضرنا، فأسهمت بروايتها (غريبا)(1) المستلهمة من الذاكرة الماضوية وانكسارات جيل المأساة، والحالمة بالاستفاقة والنهوض والتغيير والخلاص.
    ولكن قبل أن نصل محطة التعرف على شخصية بطلة وعنوان الرواية التونسية (غريبا) لابد من مصافحة شخصيات عديدة نلتقيها خلال رحلتنا مع أحداثها، فنسمع حواراتها، ونناقش أفكارها المتباينة والمتقاطعة معنا أحياناً. تلك الشخصيات التي تتواجد وتظهر في فضاء السرد الروائي أثناء حكاية متداخلة بين مشاهد التاريخ الإنساني وأحداثه، والمواقف العربية وتداعياتها، بترابطٍ زمني، وهيكلٍ متماسك، وبُنيانٍ سردي يزدانُ بعلائق عديدة تتوحد في سياق النص الروائي الجميل وشخصياته المتعددة.
    (ماذا فعلتِ بي أيَّتها الأمازيغية العربية؟ رأيتُ فيكِ ما لم أره في نساءٍ مررن في حياتي، لا يعرفُ الموتُ طريقاً إلى شفتيها، دائماً تبتسم، حتى حزنها فيه رشاقة)(2) هكذا يعلو هدير الصوت القومي لهوِّية الرواية التي تنصهر فيها الروح العربية مع الأمازيغية، عند مخاطبة بطلة الرواية (غريبا) وهي تقود فريقاً من الشخصيات ذكوراً وإناثاً، مسلمين ومسيحيين، تزخر بهم مشاهد الحياة وفصول الرواية، فنجد في صفحاتها أسماء يسوع، مريم، جيفارا، شهرزاد، راجي، حنظلة، قادسة، جلنار، درويش، شهريار، زينب تاغزويت، يوسف بن تاشفين، “الزعيمة” تامغارت، لوركا. وكلها تقودنا وتسير بنا بكل أريحية وهدوء، وبلا كد ولا عناء فلسفي قد يكتنفه الغموض والارتياب، حتى الصفحة التاسعة عشرة حين يظهر اسم (غريبا) للمرة الأولى بين سطور الرواية الممتعة، ذاك الاسم والرمز الذي ينشغل بمصير الأمة، ويعمل بكل ما يملك من قدرات ومهارات بهدف العودة بها إلى وضعها المجيد (اقترب منها واختصرت المسافات وصارا واحداً والتقت يدُ الشمال يدَ الجنوب وصارتا واحدةً، يدٌ أمازيغيةٌ تدربت على الرفض بيدٍ عربية يمنية تحتاج إلى رسم ما تريده وليس ما يريدونه هم، إنه لقاء استثنائي)(3).
    لقد جاءت رواية (غريبا) ثرية بالعديد من العناصر الفنية، خاصة رمزية مضمونها وإسقاطاته التاريخية على الوضع العربي الراهن، ولذلك فمن الصعب في هذه المقالة البسيطة تسليط الضوء على جميع أو معظم جوانبها الفنية المتنوعة، وموضوعها المتأسس على تيمة (العودة) ورحلتها التي يمكن أن تتعدد مفاهيمها بحسب فكر ومستوى شخصياتها وإمكانيات تحقيقها (هل أنتَ على يقين من قدرة شهرزاد على تحقيق عودتنا؟ سأعترف لك بأني لم أؤمن بها منذ الوهلة الأولى، ولكني رافقتكم لعلي كنت على خطأ وأنتم على صواب)(4). ومع ذلك فإن العودة ظلت حلماً يتواصل ويستمر بين الأجيال كما يؤمن البعض (ما يجمعهم رغم اختلافهم هو حلم العودة، فقد كان راجي يحدث نفسه:”هو حلمي وحلمك، حلم الكل، نحن نحمل حلم الخيمة، وحلم القبيلة، وحلم الأرض، عظيم ما نحمله، ولكن علينا أن نتكبد كلَّ المشاق لأجله، حتى وإن متنا فدرويش وجلنار سيواصلان المشوار”)(5)، كما أن مسميات العودة تباينت بين رفاق الرحلة أنفسهم (راجي يسميها رحلة الثأر، وغريبا تعتبرها رحلة النخيل الشامخ، أما جيفارا فهو يراها رحلة استرجاع الإنسان فيها، أما أنا فهي رحلة الإنتماء بالنسبة لي)(6)، وتدريجياً تبرز رائحة العودة بشيء من التفصيل والإصرار والإرادة والحلم في ربوع الوطن الكبير (عادت غريبا إلى غرفتها وعدتُ أنا إلى غرفتي ولم تنبس ولو بكلمة طول الطريق. جلستُ وحيداً قبل أن أصل إلى غرفتي وجعلتُ أشم رائحة عطرها على صدري، لم يكن عطراً عادياً، شممتُ فيه رائحة كل الأوطان من غزة إلى القدس إلى العراق ولبنان، حملني إلى عواصم عربية تئن وأخرى تصرخ وبعضها يندب الزمان، ومع هذا كنتُ سعيداً به. كان مع عطرها صوت يدندن ويعلمني بعودة، حين ضممتُ صدرها المرتعش همس لي:” سأعود، سنعود يا أنشودة الأيام فلا تحزن”)(7). وهكذا بعد نكسات ونكبات عديدة منيت بها أوطان الأمة عبر مسارات زمنية طويلة (كان على حلم العودة أن يتحول إلى واقع، ولكي يصير كذلك صمتت الألسن وشُمِّرَ عن السواعد وبدأ الطريق ينسج بذكاء ودماء لأن استرجاع قادسة قد فشل بقصائد المدح وبكائيات الرثاء)(8).
    وتمكنت الأديبة التونسية حياة البوسالمي من تمهيد مسيرة ورحلة العودة الروائية الإبداعية بكل إتقان سردي، ولغة اتسمت بالرقة والعذوبة مبتعدة عن الإغراق في متاهات الغموض المنفّر أو المزعج، رغم تأسيس نصها على رمزية المفردة ومضمون الرواية. فقادسة قد يفسرها البعض بأنها إحدى صيغ تأنيث كلمة القدس، قبلة المسلمين الأولى وبلد الأقصى وعاصمة فلسطين المغتصبة من الإسرائيلين، أما جيفارا فهو أيقونة الثورة والكفاح المسلح في أمريكا اللاتينية ودول العالم الثالث، وحنظلة رمز المكابدة والتحمل والصبر المرير، وراجي إشارة إلى الترقب والترجي والانتظار، أما شهرزاد وغريبا فهما دلالة نموذجية على أدوات ووسائل الوصول لتحقيق حلم العودة، فشهرزاد هي رمز الكلام والحكي والثرثرة، بينما على نقيضها غريبا الفتاة المتخصصة في الذرة والعلوم التطبيقية الدقيقة، ومن هنا نجد أن الرواية تهادن وتنتقد ضمنياً منهج شهرزاد الكلامي الذي يستنزف الوقت الطويل، والعبثي غير المجدي واقعياً لتحقيق حلم الجميع في العودة، وتنحاز للأسلوب العلمي الموضوعي، والعملي الجاد عوضاً عنه، وتختاره لتحقيق حلم العودة.
    لقد تهادت اللغة السردية للرواية متراقصة بكل دلال، موشاة بنقاء اللفظ ووضوح المعنى والدلالة، ومتانة العبارات والأساليب السردية المتناغمة بين الوصف الدقيق والحوار الشيق الجذاب، ولذلك فإن (غريبا) تستجيب تماماً لمصطلح التجنيس الأدبي للرواية وتعريفها الفني بكامل اشتراطاته، حيث تشكلت حبكتها السردية بنسيج بانورامي جذاب، وثري زاخر بشتى أنواع وأشكال العلائق الأدبية والفنية مثل تضمين الشعر والرسائل الإخوانية، والإشارة دون غوص في التفاصيل إلى الموروث الشعبي مثل “الحويلس” وهي لعبة شعبية فكرية ذهنية عمانية(9)، وكذلك الأسطورة الإغريقية ممثلة في آلهة الجمال “فينيس”(10) وإله السماء “كرونوس”(11)، وأيضاً الأغنية العراقية (ميحانة) للمطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي(12)، وأغنية تينا أرنيا “أنا اسمي بغداد”(13)، بجانب احتضانها لموضوعها السردي وثنايا سياقه اللغوي والحكائي المتماسك بعناصره المتقنة والمتعاضدة بشكل كبير، وصاغت بكل اقتدار رسالتها التي ظلت تحمل في مضمونها حنيناً قوياً إلى ماضٍ قومي، تراه الساردة ثرياً في هويته العربية الأمازيغية المشتركة، وسخياً بما حققه خلال أزمنته التاريخية فاستحق التقدير والاعتزاز منها.
    جاءت رواية (غريبا) الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون بالأردن في حوالي مائة وعشرين صفحة، مقسمة إلى اثنتي عشرة فصلاً، عنونت الكاتبة أولها (مريم البتول) وتركت بقية الفصول متسلسلة عددياً بلا عناوين، مع المحافظة على توطئة كل فصل بعتبة شعرية أو نثرية تنوع مبدعوها وجنسياتهم، وتوزعت على أزمنة مختلفة، وتتابع ظهورها كالتالي (هيلين كيلر، أدونيس، أدونيس، محمود درويش، إدواردو غاليانو، طرفة بن العبد، ألبير كامو، بول ريكور، التوحيدي، عبدالغني التميمي، محمود درويش، عنترة). ويمكن من خلال هذه العتبات استنباط بعض الدلالات التي تعكس تنوع وتعدد المنابع الفكرية والثقافية المصدرية التي نهلت منها الكاتبة لتكوين رصيدها اللغوي البلاغي ومخزونها المعرفي، كما تؤكد جانباً فنياً آخر مهماً في خصائص العمل الروائي وهو احتضانه للعتبات والنصوص الموازية كومضات وإشارات تعزز مضمونه. وإجمالاً فهي تلمح إلى هيمنة النص الشعري وسطوته على ذائقة الكاتبة اللغوية.
    ملخص الرواية:
    تتأسس فكرة الرواية على حلم العودة. وهذه العودة جعلتها الرواية متعددة التأويل مادياً ووجدانياً، فقد يراها البعض تحريراً للقدس الشريف والعودة إلى رحابه وطقوس عباداته الروحانية، وقد تكون العودة إلى الوطن الأم/ الكبير بوجهه الديمقراطي المشرق والمفعم بالحرية والعدالة وكل القيم الإنسانية النبيلة، سواء عن طريق ثورات الربيع العربي أو غيرها من أساليب التغيير السياسي وأدوات السلطة، وقد تكون العودة إلى الوعي الفكري الفردي الذاتي والرجوع إلى العقل الإنساني، وفي كل الأحوال فهي يمكن اعتبارها عودة بالحياة إلى مسارها الحقيقي والسوي.
    وقد استهلت الرواية فصلها الأول (مريم البتول) بلقاء يجمع شخصيات الرواية الرئيسية الثلاثة “جيفارا” و”راجي” و”حنظلة”، وحوار ينبش ذاكرة تاريخ الوطن والأمة، ويعود بالزمن لأحداثٍ ماضوية بعيدة يشعر أنها مفعمة بالروح الوطنية النضالية والمكانة القومية الرفيعة، وبالتالي تحظى بالزهو والافتخار. وهذا الثلاثي يذكرنا بأبطال رواية (ليلة السنوات العشر) للأديب التونسي محمد صالح الجابري ( لمياء ونجيب ومروان) زملاء الدراسة الثلاثة الذين يلتقون بعد سنوات من الغياب عن الوطن ويظل انشغالهم بقضايا حريته وتعافيه من أدران فساد السلطة وانعدام الديموقراطية هو هاجسهم الدائم، وهي رواية صدرت سنة 1952م وتعد إلى جانب (التوت المر) الصادرة سنة 1967م للأديب محمد العروسي، و(سهرت منه الليالي) الصادرة سنة 1969م للأديب علي الدوعاجي و(الدقلة وعراجينها) الصادرة سنة 1969م للأديب البشير خريف، و(حدث أبوهريرة قال) الصادرة سنة 1974م للأديب محمود المسعدي من أبرز خمس روايات تونسية نالت الكثير من الاهتمام خلال مسيرة وتاريخ الرواية في تونس.
    وقبل ظهور شخصية الرواية الأولى (غريبا) على المشهد السردي احتكرت (شهرزاد) زمام الحكي والقص وصوت الراوي المسيطر على النص، من خلال إدارة حوارات مشتركة تتسم بنوع من النوستالجيا، وفيوض المشاعر الوطنية والقومية المتداخلة، التي تقود إلى هدف مشترك يتمثل في تحقيق تيمة الرواية وهو حلم العودة سواء لبغداد أو القدس أو أي بقعة عربية أخرى، عبر وسائل تغيير سلمية أو غيرها. ويؤكد لاحقاً ظهور الأبناء “درويش” ابن جيفارا و”جلنار” ابنة راجي واستحضار “أسهام” ابنة حنظلة على تلاقي الأجيال، وتوارث مواصلة السعي لتحقيق حلم العودة، وإن اختلفت أدوات تحقيقه وتحولت أخيراً إلى صناعة حاضر علمي تقوده (غريبا) داخل معامل الذرة، بينما خارجها تحركه الشعوب العربية لصناعة التغيير السياسي الوطني عبر انتفاضات ثورات الربيع العربي.
    ومن الملاحظ أن الرواية لم تضع نهاية واضحة لخاتمتها، بل نجدها تبقيها مفتوحة لتترك القاريء أمام مفترق طرق لمواجهة الحاضر وصناعة المستقبل برؤى متعددة يظل حلم العودة محركها الأساسي. فهي لم تؤكد أنه تم فعلاً تحقيق الحلم بالعودة، ولم تنفيه صراحة، وربما أرادت الكاتبة من خلال هذه الخاتمة الرحبة بأن تجعله مستمراً ومتواصلاً لكي لا تبعث إحساس اليأس والإحباط في روح القاريء وشخصيات روايتها على حد سواء، وتركت الباب مفتوحاً لتصورات يصنعها القاريء وفق استيعابه لهدف ورسالة الرواية.
    (غريبا) صورة المرأة الأمازيغية
    أنصفت الرواية المرأة الأمازيغية في فاعليتها الاجتماعية وقدراتها الإسهام في معاضدة الرجل وتحفيزه وتمكنها من إدارة العمل الجماعي لأجل الهدف المشترك. فبالإضافة إلى تلك العناصر الفكرية والقيادية فإن الرواية أسبغت على المرأة الأمازيغية عدة أوصاف تظهر جمالها ورهافة حسها ورقتها وعذوبة أنوثتها (تتميز الامازيغية بالصلابة والقوة وبالوشم الذي يحتل أجزاء من جسدها، خاصة الوجه واليدين والرجلين. عكس المجتمعات الأخرى، فإن المرأة الأمازيغية لم تكن جارية ولا عبدة، بل إنها تبوَّأت أعلى المناصب السياسية.)(14)
    أما عن تفاصيل وسر جمال المرأة الأمازيغية الجسدية الظاهرة فإن شهرزاد ترجعه إلى أن (للقامة الطويلة أهمية في تحديد جمال الأمازيغية، تملك عينين سوداوين وفم صغير وتزداد الشفتان احمراراً باستعمال ما يسمى عندهم “السواك” أو “السواش” بالأمازيغية ونباتات طبيعية أخرى. تتوشم لأن الوشم ميزة الجمال عندهم، أما شعرها فهو فاحم، لمّاع ومضفور في ضفيرتين طويلتين ومسترسلتين على الأكتاف)(15).
    وعلى الصعيد الفني فقد اختارتها الكاتبة بكل عناية وجعلتها عنواناً صريحاً للعتبة الرئيسة الأولى للرواية فرسمت اسمها (غريبا) مستقلاً منفرداً وبارزاً بكل وضوح على بساط صفحة الغلاف وأتاحت له تفعيل أهمية العنوان لجذب القاريء واطلاق الأسئلة والتأويلات حول دلالاته وأسباب اختياره. وهنا ربما تتعدد تفسيرات وتأويلات هذا العنوان الأحادي الصريح، ومنشأ المفردة (غريبا) واشتقاقاتها اللغوية من العربية ونظيرتها في الامازيغية، فالبعض يرجح أنها من جذور الغرابة والتغرب، أو غرائبية الطباع، أو إشارة إلى كنيس (الغريبة) اليهودي بمدينة جربة التونسية الذي يعود تاريخه إلى 2500 عام ويعتبر أقدم كنيس في أفريقيا وأحد أقدم المعابد اليهودية في العالم، مع التأكيد أيضاً بأن (غريبا) هي قصة أمازيغية جسدتها أغنية الفنان الأمازيغي “إيدر” “أفافا اينوفا” والتي هي تهويدة باللغة الأمازيغيّة تتغنّى بأسطورة يتناقلها الأمازيغ جيلًا بعد جيل، بطلتها هي “غريبا” الفتاة القبائلية التي تكد وتعمل من أجل إعالة إخوتها الصغار ووالدها الشيخ الكبير، وفي يوم ما تعود متأخرة بعد غروب الشمس إلى البيت وتدق الباب ولكن لا يُفتح لها والدها خوفًا من أن يكون الطارق وحش الغابة، ولكي يتعرف عليها طلب منها تحريك أساورها، قبل أن يدخلها البيت لترتمي مباشرة في حضنه ويعتذر منها لعدم فتحه الباب فتنشد أغنية “غريبا”.
    وفي جميع الأحوال فإن العتبة النصية الأولى للرواية نجدها قد حققت دورها في شد انتباه القاريء وتفحير طاقات أسئلته وتأويلاته حولها وبذلك تكون قد أدت تفاعلها وأحدثت التأثير المنوط بها والمعول عليه في العمل الروائي.
    أما في متن الرواية وداخل صفحاتها فقد خصت الكاتبة بطلتها (غريبا) بخصال وأوصاف جسدية وأنثوية مفعمة بالبهاء والجاذبية (كانت غريبا فتاة طويلة القامة، سحنتها ذات نضارة طبيعية، ولها لحاظ مذهلة ورائعة، تحدق فيك عندما تواجهك في الطريق بمزيج من حب الاستطلاع والغنج) وكذلك انتسابها العرقي أيضاً فهي (كانت أمازيغية، والأمازيغية تختلف كثيراً عن المرأة العربية، إذ هي الأنثى الوحيدة التي لم يقع وأدها ولا استعبادها أو وضعها في مقام الجواري)(16). أما عن جمال قدها المفتون وتقاسيم وملامح جسمها الرشيق فهي (هيفاء بيضاء بياض الثلج، سواد شعرها يزاحم سواد الليل، في خدها الوردي وشم أخضر زادها جمالاً وذاك القرط الكبير الذي يتدلى على رقبتها كما يتدلى عرجون التمر على اخضرار سعفه)(17)، وعن طبائعها فهي (فتاة غير عادية تلبس العناد والتحدي وكأنها رجل في ثوب أنثى لا يعرف اليأس طريقاً إليها، كأن الأرض العربية كلها أرضها)(18).
    أما أصولها وانتمائها فهي كما تقول على لسانها (ليس لانتمائي حدود، نعم أنا من بلد لا يستكين أبداً ولا يقبل بالخنوع ولا الانحناء، أجل أنا ابنة الشّابي ولكنّي أيضاً حبيبة السّيّاب وعاشقة درويش ومتيّمة بروست)(19) وهكذا من خلال إقرارها بأنها (ابنة) الشابي تكشف أنها تونسية الجنسية، وعربية قومية الانتماء، وإنسانية الفكر، و(حبيبة) أشعار العراقي بدر شاكر السياب، و(عاشقة) قصائد الفلسطيني محمود درويش، و(متيمة) بأعمال الفرنسي مارسيل بروست الروائية التي يؤمن فيها أن الأجيال الواعدة الشابة يتأسس فكرها وهدفها النهضوي من استلهام مضامين الأعمال العبقرية المعاصرة المؤثرة فيها، فتدفعها إلى الغوص فيها لاكتشاف جمالياتها وأبعادها وقيمها التاريخية والوطنية، وربما تكون هذه العقيدة هي المشترك الذي وجدته البطلة (غريبا) فيه لكي تتباهى بالإنتماء إليه فكرياً.
    وتزود الرواية قارئها ببعض المعلومات الإضافية عن سيرة بطلتها (غريبا) فتشير إلى أنها (أنهت دراستها الابتدائيَّة والثانويَّة في قلعة مائدة يوغرطة شمال تونس, ثمّ انتقلت إلى العراق لتُواصِل تخصُّصها في علم الذّرّة …)(20) وتضيف البطلة بصوتها (كنتُ أحبُّ العراق كثيراً وكنتُ متواصلة مع صديقة من الموصل، أغرتني بالدّراسة هناك، وفعلاً لم أندم يوماً على مواصلة بحوثي في تلك الأرض، إنّها العراق)(21). وهنا نجد أن الرواية تعلن وتسمّي المكان صريحاً ليؤكد صدقية انتماء (غريبا) إلى تونس حيث تقع قلعة مائدة يوغرطة في الشمال الغربي من البلاد التونسية، وإلى جانب ظهور اسم العراق موطن الدراسة والتلقي العلمي والمدن العراقية كالموصل، ومفاعل تموز والصراع العراقي الأمريكي واسم الرئيس صدام حسين(22)، وهو ما يمثل تناظراً بالواقع العيني الحقيقي وتداخلاً بينه ويين الافتراضي التخيلي، الأمر الذي يجعل النص السردي الروائي ينهل من الواقع بما يجعله يقترب كثيراً إلى السيرة الذاتية والرواية التاريخية، ويتوغل في فكر ووجدان المتلقي ويستوطنه بكل سلاسة وقبول.
    أما حضور الهوية التونسية بالرواية فنجده يتعزز من خلال عددٍ من الرموز والشواهد مثل تضمينها تمثال ابن خلدون والشاعر الشابي واسم “محرز” المتداول في المجتمع التونسي، واستعمال اللهجة العامية التونسية في صوت المونولوج الداخلي (يلزمني ناخذ حقّي بإيدي, إلّي ما رحمنيش ما نرحموش, إلّي ماتوا ماعادش يرجعوا, لكن البلاد يلزمها ترجع، من هنا وجعي جاء.)(23)
    وباعتبار أصولها الجينية المتوحدة في نسيج فكرها القومي ودمها الممتزج بالعربية والأمازيغية نجد (غريبا) تستنكر الخوض في جدال تأصيلي جنسي عرقي تراه عقيماً حول علائق البربر والعرب حين يطرح السؤال التقليدي (هل البربر عرب؟) فترد عليهم (غريبا) بكل ألم وانزعاج (للأسف هذه الحوارات التي فرَّقتنا وشغلتنا عن صحراء تئنّ من مغتصبيها، عن نخيل يأبى الانحناء والخشوع.)(24) لتحسم الأمر وتنحاز إلى قومية الهوية المشتركة بين جميع الأطياف الاجتماعية العربية.
    استعارة الصوت الشعري
    زخرت الرواية في متنها بعدة أبياتٍ شعرية متنوعة سواء من داخلها أو مقتبسة من خارج نصها، ظهرت بين ثنايا سطورها، أو توطئات ومقدمات تتصدر فصولها. ويبدأ ظهور الصوت الشعري في الرواية بنص (قادسة) بالصفحات الأولى للرواية، وهو نص يتأسس على حوار وخطاب يئن بالوجع والحرقة، وتغمره نبرة الحزن العميق والمرارة الصامتة تفجرها أسئلة الذات الشاعرة الضاجة بالألم:
    (أتدري معنى رحيل الجراح
    وموت الكلمات؟
    أتدري معنى الفطام
    من الذّكريات؟
    أتدري صوت الشّرايين
    وهي تتفتّت على كلّ كتاب
    قرأناه يوماً
    وخلنا أنّه الخلاص؟)(25)
    كما نكتشف أن (راجي) أحد أبرز شخصيات (غريبا) يعتبر صوتاً شعرياً عميقاً، وعموداً فقرياً بالرواية ليس مصاحباً للسرد، بل في داخل مجرى نسيج متنها، حيث نشرت نصوصه بعدة مواقع على صفحاتها، ويبدو واضحاً تأثره بالنظم السجعي المطعم بموسيقى إيقاعية هادئة خالية من الصخب والضجيج، وهو ما يمنح نصه جاذبية رائعة بصرف النظر عن مضمونه. ومن بين نصوصه:
    (وتجمعنا المواسم العابرة
    بوعد امرأة فاتنة
    بأعلى الجبال
    بصحراء جاحدة
    وإن لم ألتقيك يا عابرة
    فخارج هذا الزّمان
    تكونين لي خادمة..)(26)
    كما نراه يستنكر ما تعرضت له الأمة من انكسارات وهزائم ويغوص في جلد الذات مرتكزاً على تكرار أسلوب السؤال وتتابعه في سطور النص والذي يعكس حالة القلق والإنشغال الدائم بالقضية:
    (مَن يَمْسِحُ دمعَ فرسِ عَنترة!
    مَن يُقْنِعُ الفارس بوهمِ
    مَا نحنُ فيه؟
    هل مِنْ مُجِيّب؟
    ويستمر باحثاً عن صدى وإجابات لنداءات أسئلته المسكونة بهموم الإنشغال بمصير الأمة:
    (مَن يَمْسَحُ دَمْعِي؟
    مَن يُسكِتُ لُغَتِي؟
    لأمةٍ باعت سرجي
    في سوقٍ العبيد)(27)
    ولم تقتصر استضافة النص الشعري بالرواية على نصوص (قادسة) و(راجي) فحسب بل نجد (شهرزاد) أيضاً تضمن رسالتها بيتين من الشعر هما:
    أَرْعَشَنِي الدّهرُ أيَّ رَعْـــــشِ وَالدّهْـــرُ ذُو قُـــــوّةٍ وَبَطْشِ
    قَدْ كُنْتُ أَمْشِي وَلَسْتُ أَعْيَا وَاليَوْمَ أَعْيَـا وَلَسْتُ أَمْشِي(28)
    هذا فيما يتعلق بالأشعار التي أبدعتها شخصيات الرواية، أما الأبيات والأشعار الأخرى المقتبسة من شعراء آخرين فقد تفاوتت أزمنتها وموضوعاتها وتسلسلت وتنوعت أغراضها بين التوضيحية الشارحة، والنماذج والأمثال المعززة بالحكمة، أو الزخرة بالوصف مثل مطلع قصيدة (أنشودة المطر) للشاعر العراقي بدر شاكر السياب:
    عيناكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَر
    أَوْ شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَر(29)
    وكذلك بيت الشاعر النجدي جرير أحد فحول الهجاء في الشعر العربي أثناء العصر الأموي:
    إنّ العُيونَ التي فِي طَرْفِهَا حَوَرٌ قَتَلَّنَنَا ثُمّ لَمْ يُحْيينَ قَتْلاَنَا(30)
    والشاعر العباس بن الأحنف أحد فرسان الشعر بالعصر العباسي المشهور بقصائد الغزل والوصف الجميلة:
    أليسَ مِنَ البَليِّةِ أَنْ أَرَانِي يُعَذِّبُنِي بِكُم شَوْقٌ طَوِيلُ
    وَأَنِّي فِي بِلاَدِكُم مُقِيــــــــمٌ وَلَيْسَ إِلَى لِقَائِكُمْ سَبِيلُ(31)
    وبالإضافة إلى هذه الأشعار المستوطنة متن الرواية والمستلقية بين سطورها فقد تصدرت فصولها توطئات شعرية لكل من (أدونيس) مرتين، و(محمود درويش) مرتين، و(طرفة بن العبد) و(عبدالغني التميمي) و(عنترة العبسي) مرة واحدة. وتبين هذه الغزارة الشعرية أنَّ حضور أبو الأدب بوفرة واضحة في الأعمال السردية ربما لأن (الكثير من مهام الشعر قد هرب اليوم إلى الرواية: فقد آلت أمور الإبداع -الذي طالما كان مصنفاً ضمن صنفي الشعر والنثر أو المنظوم والمنثور- إلى ضربٍ من التقارب والتماس يصل أحياناً حد التماهي)(32) ، كما أن استضافة النص الشعري في الرواية يعد مماثلاً لظهور السرد واستضافته في نصوص بعض القصائد الشعرية، وهو ما يؤكد التلاحم والترابط الإبداعي والعلاقة الوثيقة بين الأجناس الأدبية كافةً، وانحسار أي فراق أو قطيعة بينها، خاصة في الإبداعات الحداثوية المعاصرة التي أفسحت براحاً واسعاً لتداخل هذه الأجناس في إطار بانوراما تتفاعل فيها جميعاً من أجل مضمون ووحدة الرسالة الأدبية. كما يمكن لهذه الغزارة الشعرية في رواية (غريبا) أن تبعث بعض التساؤلات حول علاقة الكاتبة نفسها بالشعر، ومدى عشقها له وإيمانها به كجنس وصوت تعبيري إضافي قادر على أن يمتزج مع السرد في نقل المشاعر والأحاسيس بشكل يضيف الكثير من الجماليات الفنية للنص النثري الروائي.
    مفاهيم الوطن والحب في الرواية
    يمكن رصد بعض المفاهيم التي سجلتها الرواية في سياقاتها المختلفة من خلال صوت الساردة أو على لسان شخصياتها المتعددة أثناء الحوارات المباشرة أو الانسياب السردي لأحداثها والتي من بينها هذه المختارات التي تعطي بعض المفاهيم الخاصة للوطن والسعادة والحب والعلاقة المتداخلة بينها، حيث عبّرت (غريبا) في أكثر من موضع بالرواية عن مفهومها الخاص للوطن الذي يستوطن فكرها ويحرك وجدانها ويلهب مشاعرها، وهو كما تنشده (ليس مساحة جغرافيّة واسعة، أو قبيلة تمنحك الانتماء .. ] ولذلك ظل مرادها [ .. لا أريد لوطن أن يقدّم لي بطاقة إقامة أو شهادة ميلاد تزفّ لي خبراً بأنّي ولدت هنا .. أريد وطناً يحتويني, فإن لم يكن احتواء فلا انتماء إليه.)(33)
    وحول مفهوم العلاقة الوثيقة بين الإنسان والسعادة صاغت الرواية معنىً باذخاً وبسيطاً لها (السّعادة ليست في الأعلى ولا في القمّة, نحن نضع سعادتنا بعفويّة دون الدّخول في المفاهيم والمصطلحات)(34)، كما تختصر مفهومها للحب بطرح سؤال جريء ومباشر تقول فيه (مَنْ قَالَ إِنَّ الحُبَّ بين رجلٍ وامرأة يجب أن ينتهي على سرير؟)(35). أما العلاقة بين الوطن والحب فقد أبانت عنها بصورة فنية بارعة (وطني بُنِيَ بالحروف لا بالحجر والإسمنت وروعة النّقوش، لم أجمع ولم أطرح ولم أقسّم ولم أضرب لأجد هذا الوطن. فقط أحببت, فكان هو الوطن.)(36)
    رسائل الرواية
    تضمنت رواية (غريبا) نشر رسالتين تؤكدان تعالق الرواية مع الرسائل الإخوانية المتبادلة بين بعض الأقارب من أفراد العائلة والأصدقاء والأحبة. ويعود ظهور وتبادل الرسائل إلى أزمنة بعيدة ترجع إلى انطلاق أدب الرسائل مع عبدالحميد الكاتب ضمن مظاهر التحول من العصر الأموي إلى العباسي، وقد أسهمت الرسائل في توثيق العديد من الأحداث، وتعزيز العلاقات الشخصية، والتعريف بالظروف والتحديات، وتقديم النصح والإرشاد وبعض الدعم النفسي خاصة للمغتربين عن الأوطان والأهالي.
    وظهرت الرسالة الأولى في الرواية من جلنار إلى والدها راجي تزوده فيها ببعض الأخبار عن حياتها وتفاصيل دراستها في الغربة بعيداً عن الوطن، وتقول فيها (“أبي العزيز، ها أنا بدأتُ أيّامي الدّراسيّة في الثّانوية واخترتُ أن أتخصّص في المجال العلميّ، أنت تعلم أنّني ميّالة للرّياضيات والعلوم، أفتقدك كثيراً وأمنّي النّفس بعودتك … ]وتضيف[… بتُّ أتابع الأخبار حول أرض السّواد وحول هؤلاء الذين سرقوا كلّ ما نملكه, وأسهر على تعلّم اللّغات الأجنبيَّة لأنّك كنت تقول لي: “مَن فقهت لغته ستتغلّب عليه”)(37).
    أما الثانية فهي رسالة تحريضية وتحفيزية كتبتها شهرزاد تحث فيها الجميع على مواصلة السعي لتحقيق حلم العودة وتبشرهم بقرب ذلك، وتقول فيها (“أيّها الرّاحلون، يا مَن سكنكم هاجس العودة ورغبة استرجاع ما سُرِق منكم، أبشِروا فمن أرض السّواد يبدأ فجركم لتعانقوا قادسة وقرطبة الغراء، لا تتفرّقوا مهما اختلفتم, ولا تُكثِروا الأمنيّات والأقوال، بل كثِّفوا الأفعال والأعمال …] وتضيف [ .. سيروا ولا تتردّدوا واستعينوا بغريبا فهي من تربة لا تعرف الشكوى، إنَّ وراءكم عدوّ، بل أعداء، فلا تستهينوا بقدراتهم ولا تضعفوا أمام سطوتهم، فمعظمهم يحملون جلدكم ودمكم، لو أرادوا أن يؤاذوكم ما وصلوا إليكم ما دمتم في وحدة وثبات، أرض السّواد المنطلق ثمّ قادسة ثمّ قرطبة الغراء.)(38)
    فضاء الأسئلة
    علاقة الإنسان بالأسئلة قديمة جداً بل نجدها أزلية منذ صرخات ميلاده الأولى. ولعل أبرز وظيفة للأسئلة هي إتاحة فرص اكتشاف الأشياء، وفهم كينونة الحياة، ونشأتها وصيرورتها وتدابيرها، وبالتالي فإن حضور الأسئلة في العمل السردي والنص الروائي يمنحه الكثير من الحيوية والديناميكية الفكرية التي توطد علاقته ليس بمفاهيم النص وحده، وإنما بجميع عناصره وشخصياته ومضامينه.
    و(غريبا) تطعمت بالكثير من أساليب الأسئلة المتنوعة والمتوالدة من ذاتها أحياناً في تسلسل يحرك العقل، ويغذي الفكر ويستحثه على المزيد من الغوص والتوغل في ثنايا النص، ومفاهيمه، واحتضانها برغبة، وتأملها بشغف ونقدها بكل موضوعية وعشق وروح تؤمن بأهميتها بل ضرورتها لمعانقة الحياة في وقائع حاضرها وتطلعات وأحلام مستقبلها (متى كان صوت الأساور والخلخال كافياً لتحديد هويّة الإنسان؟ أم أنّ غريبا غيّرت المفاهيم؟ ألَا يمكن للأب أن يشمّ عطر ابنته ويميّزه من بقيّة العطور؟ ألَا يملك الأب حاسّة تجعله يميِّز صوت ابنته من بقيّة أصوات نساء القرية؟)(39)
    الحوار
    من أهم العناصر التي تبعث التشويق في النص السردي هو الحوار بين الشخصيات والجدال الفكري العميق حول القضايا المتباينة في مجريات معطياتها، وتطوراتها المختلفة. احتوت (غريبا) على حوارات ممتعة كثيرة تراوحت بين الايديولوجي والفلسفي وغيرهما. وفي هذا الاقتباس، كما يصوره المشهد السردي، جاء الحوار مفعماً بالمواجهة، وتبادل تهم التخوين، والإيمان القوي بمشروع وحلم العودة، رغم ما يحتويه على بعض اشارات جلد الذات العربية وتحميل الماضي المتردي معاناة ما يعايشه الحاضر البائس. تمهد الساردة بتصوير مشهد يجمع شخصيات الرواية (دخلت عليهم شهرزاد وهم يناقشون سبل العودة، السّبل كثيرة, ولكن لا بدّ من تخيّر الطّريق الصّحيح الذي يوصل إلى قادسة، نظرت إليهم شهرزاد وقد استمعت لحوارهم من بدايته إلى نهايته وقالت:
    – الأرض بين يديكم, أنتم سخرتم من الصّحراء واتَّهمتموها بالخيانة, ولم تفكِّروا يوماً في (مَن الذي يخون؟), حاكمتم أرض السّواد دون قضاء ووضعتم التّربة في منزلة الخائن وتناسيتم الخائن الحقيقيّ، ألم يخنك الورق يوماً يا حنظلة؟ ثمَّ أنت يا راجي, ألم تخنك زوجتك في تلك اللّيلة مع ذاك الغريب؟ وأنت ياجيفارا, ألم تخن الأبوَّة فيك؟! كلُّكم خائنون وآخر خياناتِكم خيانتُكم لي بعد أن تسلَّيتم بقصّي ورحلتم مع غريبا، بعتم حكايتها واستعجلتم الحكم عليَّ بالفشل، علِّموا أنفسكم ألَّا تبيعوا ثمَّ حاسبوا مَن يبيع.
    طأطأ كلٌّ من راجي وجيفارا رأسيهما إلّا حنظلة، نظر إليها نظرة تحدّ وصرخ:
    – نحن لم نخن ولن نخون, إنّما الزّمن الموحش خاننا، نحن لم نبع ولن نبيع، إنّما السّرّاق هم مَن باعوا أحلامنا، هل تحسَّستِ يوماً معنى أن يجهض حلمك وهو جنين؟ ثمّ هل حضرتِ جنازة وحفرتِ قبر ابنتك الّتي أعدموها لأنّها نسجت شالها بخيط ينبذونه ولا يريدون استعماله في مناسجهم؟ هل تذوّقتِ طعم معايشة احتضار زوجة كمداً على فراق فلذة كبدها؟ طبعاً لا، أنت بعيدة عن كلّ هذا، ثوب حريريّ وقصّ وهميّ ومركز إعجاب الجميع، أين نحن منك يا شهرزاد؟ نحن لم نخن، أنتِ مَن خدّرتنا وأوهمتنا باختراق المحظور وجعلت السّاحر والعفريت والأحدب وسائلَ لتحقيق المستحيل. هيّا حقّقي لنا العودة إلى قادسة إن كنت تستطيعين، لقد مللنا سفك الدّماء وموت الأطفال وحكم الجبّار فينا)(40)
    (3)
    (غريبا)
    رواية تنساب في سلاسة الزئبق، فتبسط أحداثها بتشويق وتشرع أساليبها في سهولة ويسر، وبكل يقين ووثوق في براءة مضمونها، وبساطة تراكيب سردها، وحلم العودة الذي طرزته مفردات لغتها الرقيقة المتراقصة بكل دلال، ونسجته حبكة نصها الممتعة، حتى لكأنها تستحضر وتتمثل الواقع العربي وتستعير منه وجعه وانكساراته عبر سلم زمني يعج بالضياع ولكنه يظل يتشبت بأهداب الحلم.
    (غريبا) استطاعت اختراق جدران فكرنا بانسيابية قصها وموضوعية مضمونها وفق مفهوم استراتيجية البساطة لتحقيق الهدف، رغم بعض التداخلات في الأزمنة والأمكنة بين الماضي والحاضر، والتي سرعان ما تنصهر في هيكل وصوت روائي متماسك يجعلنا نعترف بمقدرته على تحويل انكسارات الأمة ومعاناة الإنسان إلى حلم تهون في سبيله التضحيات الجسام، وكذلك مقدرته على شدنا ببراعة وإسماع صوته لنا بكل الوعي بالوجدان القومي والإحساس الإنساني العاطفي المتضامن مع حلم العودة.
    لقد تأرجحت هوية (غريبا) بين (الرواية التاريخية) و(الرواية السياسية) وهو ما يضمن لها موضعاً بارزاً في إطار الاتجاهات الجديدة للرواية التونسية التي اكتسبتها بعد المنعرج السياسي الذي تشهده تونس منذ 2011م، وتفاعلت مع معطياته كافةً بطبيعة انتمائها البيئي الاجتماعي والفكري الأيديولوجي، بجميع أنواعها المختلفة، وقد يحتاج موضوع تناول ذلك الجانب حيزاً من الدراسة يتجاوز هذه المقالة.
    ولكن في كل الأحوال فإن الرواية التونسية بوجه عام والنسوية على وجه الخصوص قد كسبت صوتاً جديداً بجانب عروسية النالوتي وهالة الباجي وحفيظة القاسمي، وإيناس العباسي وآمال مختار ومسعودة أبوبكر، وهي كاتبتنا الروائية حياة حسين البوسالمي والتي حين مكّنت بطلة روايتها (غريبا) من مطالعة أحد كتب الروائي الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1982م فإنها ربما كانت تقصد بذاك الكتاب روايته (مائة عام من العزلة) التي حوّلت سنة 1967م حلمه إلى حقيقة وخياله إلى واقع، وها هي كاتبتنا نفسها تسير على دربه لتسجل عملها الروائي الأول وتحضن حلم العودة .. وتتأمل وتعد بالمزيد… لأن (غريبا) لم ولن تكون غريبة على إسهامات الكاتبة التونسية الإبداعية وقدراتها الروائية المبدعة !!!