بقلم – إشراف بن مراد كاتبة تونسية
يضيف الروائي التونسي نبيل قديش بروايته الأخيرة «الركض في المنخفض»، الصادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون الأردن في 239 صفحة، خطا جديدا إلى مشروعه السردي ليثير بذلك عمقا آخر من أعماقنا. يركض البطل خلف ذكرياته فيفتح كل جراحه لعلها تندمل ويشفى منها ويسترجع ذاته القديمة ووجهه القديم، ونركض نحن معه وخلف ذكرياتنا نتقصى تركة الماضي الثقيلة التي نحملها على أكتافنا.
من العنوان يوجّه الكاتب بطله وقارئه على حدٍّ سواء إلى الوجهة التي ستسلكها الرواية وتسير نحوها الشخصية الرئيسية وما يتحرك معها من أحداث وشخصيات. نتجه جميعا مع زاهر أو زيزو إلى الذكريات المعطوبة، لينتهي ماراثون الركض والأحداث بانتهاء البطل بمشهد تراجيدي مؤلم يقوده إلى رصيف محطة القطارات حيث (داهمته الرائحة الكريهة للمراحيض العفنة وصور القذارة المنتشرة في زواياه). يظل ينظر إلى السماء فلا يرى غير كل قاتم لكنه (في قلب ذلك الحزن الرئيسي يشعر بتحرره). إنّ المشهد الذي انتهت به الرواية والذي جاء ضمن الفصل الأخير تحت عنوان: «في انتظار اللاشيء» كفيل وحده بتلخيص هذا العمل السردي المدجج بالرموز والإيحاءات والتكثيف، يسلك البطل خطا دائريا ينتهي به إلى اللاشيء، يبحث عن وجهه القديم وحبيبته سارة ومواجهة أعدائه فيلتقيهم أو هكذا تخيل. ومع خيباته وخساراته المتعددة يُلحق بنفسه خسارة جديدة بإصراره بعد مضي عشرين عاما على البحث عن الماضي من جديد والعودة إلى ذاك الحي الشعبي الخطير حيث منزل كاميليا، أين يتعرض إلى النشل ومحاولة القتل من قبل عصابة أعضاؤها لم يكونوا سوى معارفه القدامى ليواصل خساراته، ويزداد الشرخ اتساعا بين زاهر وزيزو، اثنان في جسد واحد منهك ومتعب ومشوه، وكأننا بالروائي يوصينا بعدم النبش في الماضي لأنه لن يضيف لنا إلا خسارات جديدة، فالبطل يسلك طريق العودة إلى الماضي لتصفية حسابات قديمة فيُجهِز على ما تبقى له من أمل الشفاء.
الغريب في الأمر أن زاهر قد جعل كل حياته تدور حول ما تعرض له في إجازة قصيرة، عشرون عاما تلت ما عاشه في بيت كاميليا لم تسعفه في الخروج من آثار ما عاشه من تشوه في وجهه وفي شخصيته، حيث تحول من شاب وسيم ذكي إلى رجل مشوه بشرخ في وجهه وسن مكسور هي علامة هزيمة في معركة لامتكافئة مع بوذراع على حب سارة.
اعتمد نبيل قديش على التكثيف في سرده ليتابع القارئ الرواية من خلال راو عليم يجمع كل خيوط الرواية ويعرف تفاصيلها، فنتعرف من خلاله على مساحات كثيرة ليست فقط تلك التي تتحرك فيها الأحداث والشخصيات وإنما تلك التي تجول داخل الشخصية الرئيسة من أفكار وهواجس ومشاعر وتساؤلات، حيث نستمع لما يحدث به زيزو نفسه. فهاهو يقول لها (أنا متهور تافه)، أو يرد على جدته في حوار ذاتي داخلي (أين هي ملامح السعادة يا جدتي؟ هل رأيت رجلا سعيدا بوجه معطوب، يزدريه ويسخر منه الجميع؟ عاطل عن الحياة وعن كل شيء؟). ومع ما يعيشه البطل زاهر/زيزو من تداعيات لذكريات مريرة، يطرح نبيل قديش أمام قارئه قضايا اجتماعية وتربوية ونفسية عديدة، ومنها علاقة الإنسان بالعالم الافتراضي بين متلقٍ ومستقبل في شبكة افتراضية في علاقاتها تظل مرتبطة بأسماء مستعارة وغير مكشوفة للبوح بما تعيشه من مآسي وأوجاع في واقعها، وذلك من خلال علاقة زاهر بمنتديات الحوار على الإنترنت، حيث يتعرف على أنجي أميرة النت والتي قالت له إنها طبيبة نفسانية ووصفت له دواء يساعد على النسيان فأدمنه. لكن أنجي كانت بدورها تبحث عن ملاذ آمن لأوجاعها وكأنها هي نفسها مريضة وتبحث عن طبيب ليعالجها من أوجاعها.
أقنعة وقضايا
لقد كتب نبيل قديش ليس فقط لسرد حكاية وإنما ليكشف أمامنا أقنعة كثيرة ويثير قضايا هامة منها التنمر والعنف المادي والمعنوي الذي يظل جاثما على علاقاتنا بأنفسنا وبمن حولنا فهاهو يسلط الضوء على أثر العنف في تربية الأطفال وعواقب ذلك لاحقا من خلال علاقة كاميليا ببوذراع وأثر التسلط الأسري من قبل أحد الزوجين على الآخر وعواقب التنمر وآثاره السلبية قصيرة المدى وبعيدة المدى سواء من الفرد أو من المجتمع تجاه كل من هو مختلف في شيء ما. فزاهر يعتبر أحد ضحايا التنمر في مراحل عديدة من حياته سواء عندما كان شابا من قبل بوذراع أو عندما كان أستاذا من قبل طلبته ومديره في العمل أو من خلال المجتمع الذي ظل ينظر له كمتهم دوما لتشوه في وجهه. ولا يمكن أن نغض الطرف عما كشفه قديش من مظاهر فساد كثيرة منها ما يرتبط بالقطاع الصحي، فالطبيب النفساني في الرواية قد ظهر بصورة شخص انتهازي همه الوحيد ثمن الكشف الذي سيأخذه من مريضه وكيف يمكن أن يجعل منه مشروعا يستدر منه المال عبر مواعيد متلاحقة.
ونبيل قديش من مواليد العام 1977، قاص وروائي وإعلامي ثقافي تونسي صدر له في القصة القصيرة مجموعة العبث مع نيتشه المتوجة بجائزة الكتام آر التقديرية لأفضل المجموعات القصصية التونسية للعام 2014، أما في الرواية فقد حازت روايته «زهرة عباد الشمس» على جائزة الكومار الذهبي صنف الروايات البكر 2015، كما وصلت روايته «شارلي» القائمة القصيرة لأفضل الروايات التونسية في معرض تونس الدولي للكتاب سنة 2016، وشارك بروايته «بياض العين» في ورشة البوكر لأفضل الكتّاب العرب في عمان سنة 2017.