القصة القصيرة النسائيّة في الأردن: قراءة في الصوت الأُنثويّ

القصة القصيرة النسائيّة في الأردن: قراءة في الصوت الأُنثويّ


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    “وفيقة المصري”
    كاتبة وباحثة أكاديميّة

    شَهِدَ الربع الأخير من القرن الماضي فترة ازدهار الحركة القصصيّة في الأردن. وفيما ظلّ الحضور النسائي في الساحة الأدبيّة الأردنيّة محدودًا حتى ذلك الحين، برزت عدّة أصوات نسائيّة في مجال القصّة القصيرة خلال عقد الثمانينات تحديدًا،[1] مثل هند أبو الشعر، وسهير التل، وسامية عطعوط، وسحر ملص، ورجاء أبو غزالة، وإنصاف قلعجي، وغيرهنّ.
    كما شَهِدَ عقد التسعينات «ميلاد جيل قصصيّ جديد، حمل تنويعات فنّية جديدة، وارتاد آفاقًا فنّية متنوّعة»،[2] ومن أبرز رائدات هذا الجيل القصصيّ؛ بسمة النسور، وجواهر الرفايعة، ورفقة دودين، وجميلة عمايرة، وسميحة خريس، وليلى الأطرش، وحنان بيروتي وغيرهنّ. وقد كانت هؤلاء الكاتبات أكثر التفاتًا لثيمة المرأة وأهميّة دورها الاجتماعيّ منذ باكورة أعمالهنّ القصصيّة، وإن كان من المبكّر جدًا حينها الحديث عن رؤية نسويّة واعية وفاعلة في أعمالهنّ؛ إذ يغلب على معظم هذه القصص الاكتفاء بتوظيف ما تُطلق عليه الناقدة غادة خليل «الأصوات النسويّة اللاواعيّة»؛ وهي إمّا أصوات شاكية أو غاضبة من واقع النساء في ظلّ الهيمنة الذكوريّة على المجتمع، اتكاءً على «سلوك حدسيّ لاواعٍ أو إحساس داخليّ بالرفض والغبن» دون «تبنٍّ لقضايا المرأة عن اختيار عقلي أو موقف جاد»[3] أو القدرة على خلق شخصيّات نسويّة مُستقلّة، تنجح في التمرّد على الواقع، والانفكاك من سيطرة المجتمع الذكوريّ نسبيًا، عبر إدراك ذاتها وتحقيق أهدافها الشخصيّة تدريجيًّا.
    وبينما أخذت هذه الرؤية النسويّة تتبلور بشكل أوسع عبر الخطاب الروائي خلال العقدين الماضيين،[4] برزت أيضًا أصوات نسائيّة أخرى سعت إلى الاشتغال على تلك الرؤية عبر توظيف تقنيات حداثيّة[5] في فنّ القصة القصيرة والرواية جنبًا إلى جنب، كما في أعمال الكاتبة سناء شعلان مثلًا.[6] ورغم تراجع الخطاب التقليديّ المباشر نسبيًا، مُتمثّلًا في الانزياح عن نمط البوح والشكوى في قصص هذه المرحلة، والالتفات إلى البعد الإنساني الفلسفيّ والجماليّ، إلا أنّ مسارعة بعض القاصّات إلى اللحاق بركب الحداثة التقانيّة، والتركيز على الاتّجاهات الفنّية والجماليّة في قصصهنّ، على حساب تطوير الاتّجاه الفكريّ والاجتماعيّ كما ينبغي، أثمر في بعض الأحيان عن أعمال قصصيّة تتبنّى نزعة إنسانيّة غير ناضجة ومكتملة الأبعاد في رأيي.[7] فهي إن لم تخرج عن صوتها البدئيّ المؤنّث وتنتقل إلى امتلاك صوتها وأسلوبها الأنثويّ الخاص بها تدريجيًا، فإنّ تأثّرها بأساليب وأصوات كُتّاب آخرين يظلّ جليًا، ممّا يُفقدها شيئًا من خصوصيّة التجربة، أو حتى قدرتها على التطرّق إلى ثيمات أكثر جرأةً من سابقتها.
    تعتقد الناقدة غادة خليل أنّ «الإشكاليّات التي تطرحها قضايا النساء لم تزل قائمة ولم تحسم بعد، فالنساء/ الكاتبات قد دخلن ساحة الكتابة الروائيّة من بوابة النضال الاجتماعيّ، لا من باب التجريب أو التجريد الفنّي الذي يمتلك الكتّاب/ الرجال ذاكرة ثقافيّة زاخرة به. وإن نظرة سريعة إلى المقدّمات التي حرصت الكثير من الكاتبات على إضافتها لرواياتهن، لتعطي أبلغ دليل على انشغالاتهنّ (غير الفنيّة)».[8]
    إنّ حديث الناقدة عن انشغالات النساء بالكتابة في الحديث عن السياق الروائيّ منطقيّ، إذا ما أخذنا في عين الاعتبار المساحة الإضافيّة التي يمنحها الفنّ الروائي للاشتغال على الشخصيّات بعمق أكبر، لكن ما هي الدلالات التي تحملها انشغالات النساء الكاتبات بالتقنية الفنّية في السياق القصصيّ في المقابل؟ وإن كان الانشغال بالأساليب التجريبيّة والتجريديّة إحدى سمات القصة القصيرة الحداثيّة، فكيف يمكن أن نقرأ انشغالات القاصّات في سياق كهذا؟ وكيف تجلّت النزعة الإنسانيّة عبر المجموعات القصصيّة النسائيّة التي برزت مؤخرًا في الساحة الأدبيّة الأردنيّة؟
    أستعرض في هذا المقال ثلاث مجموعات قصصيّة لقاصّات أردنيّات شابّات، صدرت مجموعاتهنّ القصصيّة الأولى في السنوات الأخيرة، سعيًا للإجابة على هذه الأسئلة.

     الصوت الذكوري المؤنث
    تُطلق القاصّة حليمة الدرباشي في مجموعتها القصصيّة الأولى «كائن مثقوب»، الصادرة عام 2019، صوت الإنسان العربيّ المأزوم والمُثقَل بهمومه وأسئلته الوجوديّة. وعبر معالجتها ثيمات سياسيّة واجتماعيّة دون تخصيص للمكان، توظّف الدرباشي في قصصها شخصيات رجوليّة ضعيفة ومكسورة، فيما تغيب الشخصيات النسائيّة عن معظم قصصها غيابًا واضحًا.

    إلا أنّ الدرباشي، على ما يبدو، متصالحة مع الصوت الذكوريّ في المجتمع حدّ التعاطف مع انكساراته، والكشف عن ذلك الجانب الهشّ والمتآكل منه؛ إذ لا يشكّل ذلك الصوت المهزوم تهديدًا للنساء في قصصها، بقدر ما يشكلّ تهديدًا ضدّ نفسه ووجوده بالدرجة الأولى. يتّضح هذا التصالح بدايةً من عتبة المجموعة القصصيّة، ولا سيّما عبر إهداء القاصّة العمل الأدبي إلى أبيها: «إلى أبي الذي علّمني كيف يكون الصمت لغةً سريّة وطوق نجاةٍ أخيرًا».[9]
    يشي الإهداء بعلاقة وئام بين القاصّة والصمت الذي تعلّمته من والدها، فهي لا تتعامل مع الصمت بسلبيّة ورفض، بل كنوع من أنواع التواصل الخفيّ وأسلوب الحياة المُنجي. وقد لا يبدو مؤكّدًا إن كان تعلّم الصمت مكتسبًا بالترغيب أو بالترهيب في هذا الإهداء، لكن في حال أنّ القاصّة قد تعلّمت الصمت من الأب بمحض إرادتها، فإن ذلك يحمل دلالة مُخالفة للصورة المعتادة عن الأب القامع.
    تأتي القصّة الافتتاحيّة بعنوان «محض أسئلة» لتؤكّد على تعاطف شخصيّة الابنة مع أبيها؛ اللاجىء الفلسطيني الذي أمضى حياته مُناضلًا وأورث ابنته النضال عينه، والكثير من الأسئلة التي لم يُفلح في العثور على إجابات لها:
    «صار ستّينيًا له ابنة تسأله عن الله كل يوم، حتى وجد نفسه يصادقها ويحكي لها حكاية الجيش الأحمر، والنجمة الخماسيّة، والشيخ، والمنجل. ومعها فقط، كان يعتصر ألمًا بينما يجترّ آلام المعتقلات، وأقفاص الاتهام، والاعتقال الأخير، وعودته القسريّة إلى البلاد. يُمسك يد ابنته جيدًا وهما يصعدان طريقًا جبليًا يؤدي إلى الشارع العام للمخيّم الذي تحوّلت شوادره إلى بركسات فبيوت جدرانها من طوب رديء، وأسقفها ألواحٌ من الزنك. يتشبّث بيدها بقوة أكبر كلّما قلت المسافة الفاصلة بين خطواتهما ورأس الشارع».[10]
    تمثّل العلاقة الوثيقة بين البنت والأب نقطة تلاقٍ بين مكامن الضعف والقوّة بينهما، فالأب هنا، على حدّ تعبير الناقدة غادة خليل ليس «علامة تهديد وقمع» ولا «منبعًا لمشاعر التحدّي الموغلة في الرفض»، بل إنّ مصدر القمع والتهديد والألم سياسيٌّ بحت، يفرض تأثيره على الظروف المعيشيّة والاجتماعيّة في المقابل. وعليه، فإنّ الأب هنا يُمثّل «مساحة التقاء وتفاهم وودّ»،[11] وبدلًا من الانفصال عنه، أو خوض حروب ضدّه، تنشأ بينهما صداقة، دون أن يمنعها في المقابل من أن تشقّ طريقها. إلا أنّها اختارت أن تُماثله في اهتماماته النضاليّة وانتماءاته الحزبيّة لتضحي شابّة «يساريّة مُتفتّحة تقرأ غالب هلسا»، كما تصفها القاصّة، ساخرةً من وضعها الاجتماعيّ بصفتها تنحدر من طبقة كادحة، بينما تصطدم طموحاتها في الواقع الاقتصاديّ الاستغلاليّ الذي يبتلعها على المدى اليوميّ، كما ابتلع والدها من قبلها.
    تسبر الدرباشي أغوار القمع الذي يمدّ جذوره في طفولة الإنسان، ويتضاعف بفعل المؤسسات التربويّة والمجتمعيّة والوظيفيّة، ليُمسي قوةً دافعةً يظلّ على إثرها مُغيّبًا عن القرار السياسيّ، مُسيّرًا ومسلوب الإرادة في سائر شؤون حياته.
    وعبر انتقادها للواقع الاجتماعيّ والتربويّ القمعيّ، كما في قصةّ « السوط» على سبيل المثال، تسبر الدرباشي أغوار القمع الذي يمدّ جذوره في طفولة الإنسان، ويتضاعف بفعل المؤسسات التربويّة الأخرى كالمدرسة، والمؤسسّات المجتمعيّة والوظيفيّة، ليُمسي قوةً دافعةً تُحرّكه في جوانب حياته مُستقبلًا، ويظلّ على إثرها مُغيّبًا عن القرار السياسيّ، مُسيّرًا ومسلوب الإرادة في سائر شؤون حياته.
    أمّا في قصّة «كائن مثقوب»، تتموضع أزمة العبث الوجودي والجفاف العاطفيّ على هيئة ثقب يظلّ يتّسع ويزداد عٌمقًا إلى أن يبتلع الأرض بأكملها، وبذلك يصير ذلك الثقبُ الصغير الأسود في قلب الإنسان نافذته التي يُبصر العالم من خلالها، ويظلّ واقعًا تحت تأثيرها الفارغ الأجوف إلى ما لانهاية: «مأزومًا يجوب الشوارع والحارات، مأزومًا يلقى حبيبته التي اكتشف مؤخرًا أنّها مثقوبة أيضًا، هو يرتعشُ أمامها، وهي تنهمر في شتم الصهاينة اليهود والعرب، يهرب منها إلى الشوارع الفارغة، ليجد ثقبًا محاطًا بالقلوب».[12]
    إنّ ما تسعى الدرباشي لإظهاره في هذه المجموعة القصصيّة من أصوات ذكوريّة مهزومة ومغلوبة على أمرها يقتضي منها فعليًا استنطاق ما يُطلق عليه عالم النفس التحليلي، كارل يونغ، مسمّى «الأنيما»؛ أي «الأنثى الداخليّة في الذكر». وبينما تتبدّى الأنيما الإيجابيّة عند الذكور «في قوة الحدس والقدرة على الحب والإحساس بالطبيعة، فتعمل كمرشد داخلي لصاحبها»، يمكن القول إنّ ما ركّزت عليه القاصّة في معظم قصص المجموعة هو «الأنيما السلبيّة» عند الذكور، حيث تتمثّل في «الاستسلام للأوهام، وإحساس الفشل والعجز عن التغلب على صعوبات الحياة».[13]
    وبصرف النظر عن وقوع الدرباشي في التكرار المُملّ أحيانًا واللجوء إلى النهايات المُبتذلة أو الاعتباطيّة نوعًا ما لتحقيق عنصر المُفاجأة في بعض قصصها، فإنّ صوتها كقاصّة في أولى أعمالها الأدبيّة، وأسلوبها السرديّ الواعي مُتداخلًا مع جماليّة اللغة، وعمق منظورها الفلسفيّ، جميعها عناصر تُنبىء بيقظة صوتها الذاتيّ والمستقلّ في الكتابة، وإن بدت زاهدةً في انشغالها بثيمات المرأة، فابتعدت عن توظيف الشخصيّات النسائيّة في قصصها بشكل ملحوظ.

    الصوت الأنثوي الخافت
    تُفتّش بيان مصطفى في مجموعتها القصصية الأولى «أنفاس»، الصادرة عام 2021، عن مُتنفَّس لشخصيّاتها المُفرطة في حساسيّتها ووحدتها، وتعكس اختناقها في جو مشحون بالكثير من اللامبالاة وإساءة الفهم من العالم الخارجيّ.

    تنطوي قصص المجموعة، التي تتناول شخصيّات نسائيّة فيها، على نوع من الشكوى المكتومة جراء عدم احترام المجتمع للحيّز الخاصّ بهنّ. يظهر ذلك على سبيل المثال في قصّة «شيزوفرينيا»، حيث الشعور بالاختناق في الفضاء العام سمة واضحة، تُفاقمه الرغبة في العزلة والانطواء على الذات تحسّبًا من مساءلة الآخرين، والوقوع في فخ أسئلتهم الفضوليّة. وقد يُعزى عدم اهتمام القاصّة بخصوصيّة المكان الأردنيّ في قصصها إلى تعميم التجربة، أو غياب تأثير المكان على مجريات الأحداث، إلا أنّ شعور الشخصيّات بعدم الانتماء إلى أي مكان على الإطلاق يأتي مُتزامنًا مع تهميش المكان عند القاصّة، وعدم القدرة على امتلاكه وتطويعه كمسرح للأحداث الواقعيّة.
    من هنا، تلجأ القاصّة إلى عوالم الأحلام والأشباح وأسرار العالم الماورائيّ في قصص المجموعة بديلًا، ولا تتكّىء على عنصر المبالغة الفنّية لسرد قصصها فحسب، بل تخلق شخصيّات ميلودراميّة عبثيّة تعي حجم المبالغة الذي تتصّف به أفعالها: «استلقت على ظهرها على البلاط مباشرة، وأخذت تحدّق بالسقف لا تفكّر في أي شيء، إنّ أقل شيء تفعله هو المبالغة في كل شيء، لا تأبه بشيء، إنّها ركام قلبها وأخفُّ ما قد تحمله العاصفة. تهتمّ بالجميع، ثمّ إنّها دائمًا ما تدرك أنّها إطار هذا المجتمع، الجميع داخل الإطار يتحرّك، يقفز، يعبر إلى الجهة الأخرى، يصرخ، تسمعه، ثّم لا تفعل شيئًا».[14]
    تتجسّد النزعة الإنسانيّة عند القاصّة بتأثير من الطاقة السلبية المُشبعة بالهامشيّة والعدميّة واللاجدوى والتي تُحاول بدورها أن تُسبغها على شخصيّاتها من الرجال والنساء على حدّ سواء، بحيث يبدو أنّ كلًّا منهما يُفتّش عن مساحة للتنفّس وإدراك الذات بلا طائل. وبينما تنسحب شخصيات النساء إلى عوالم العزلة المأهولة بالتفاصيل في بعض القصص، تموت شخصيات الرجال أو تنتحر بخوف ووحدة في قصصها الأخرى.
    رغم أن صوت القاصّة الأنثويّ خافت في عملها الأدبيّ الأول، لكنّها تهمس بثقة مُدركةً بداية مسارها جيدًا في عالم القصّة القصيرة الرحيب.
    في قصّة «بيت الشجرة» على سبيل المثال، تُفلح المرأة في العثور على رابط خفيّ بينها وبين الطبيعة، تتماهى مع الأشجار عوضًا عن البشر، وتعثرُّ على مُتنفّس في أسلوب حياتها المُتفرّد: «عادت فكرة الشجرة تنبض في رأسي، صرت أراها على أصابعي بعد كل شيء ألمسه، وعلى كل شيء أنظر نحوه في الأحلام. وتلاحقني، تدفعني أحيانًا وتسير في مكاني، جذورها دخلت في جسدي، أغصانها تصفعني، إنها داخلي، وأنا خارجي تمامًا. ما عدت أستقبل أحدًا ولا أهتمّ لأحد، لا تجذبني أي فكرة عن ممارسات الحياة، لا أحمل في ذهني سوى فكرة واحدة هي أن أفهم حياة الأشجار، أتخيّلني شجرة صنوبر مثلًا، ما هو شعوري وأنا أستطيل؟»[15]
    إنّ ما تبنيه القاصّة من عوالم سريّة تتنفّس المرأة في أرجائها بحريّة وعفويّة يصطدم بجدران الواقع، فنرى الشجرة حبيسة البيت، تُحاصرها الجدران، وتُقيّد حركتها الطبيعيّة. قد لا تكون المرأة بالضرورة حبيسة البيت في وقتنا هذا، وإنّما تخلق القاصّة عالم المرأة الموازي للأشجار لتعكس حيّزًا أنثويًا عفويًا تكون المرأة فيه ذاتها، بعيدًا عن الصور البلاستيكيّة المكرّرة لأجساد النساء التي تهاجمنا باستمرار، وتشغل مساحةً لا بأس بها من اللاوعي الجمعيّ، دون أن نشعر.
    تضمّ المجموعة القصصيّة كذلك عددًا من القصص القصيرة جدًا. تحمل بعض هذه الشذرات أفكارًا مُتشظّية وذات كثافة شاعريّة عالية أحيانًا، إلا أنّ بعضها مُجوّفة، زائدة، وفاقدة للمعنى أحيانًا أخرى. ورغم أن صوت القاصّة الأنثويّ خافت في عملها الأدبيّ الأول، لكنّها تهمس بثقة مُدركةً بداية مسارها جيدًا في عالم القصّة القصيرة الرحيب. وإن سيطرت أجواء الحزن واليأس على شخصيّاتها، لا سيّما النسائيّة منها، فإنها نتاج لغة المشروع الإبداعيّ النسائيّ الذي تُحمّله بعض الكاتبات لشخصيّاتهنّ الأدبيّة على حدّ تعبير الناقدة غادة خليل؛ إذ يبدو وأنّ القاصّة بيان مصطفى تصوغ مع شخصيّاتها «تغريبتها الخاصّة»،[16] تحاول جاهدةً أن تنقلنا إلى «عوالم جديدة ممهورة بمياه الأنوثة المغايرة»، إلا أنّها تقع فريسةً «لغياب حالة الفرح»، وتستسلم لعوالم العزلة، عِوضًا عن محاولة التصدّي للصعوبات الاجتماعيّة، والوقوف في وجه المجتمع.

    امتلاك الصوت الأنثوي
    «قصص تتجاوز البدايات الأولى، كتابة امتلكت شخصيّتها باستقلال بائن»؛[17] هكذا يُعلقّ الكاتب والناقد إلياس فركوح في مراجعته النقديّة للمجموعة القصصيّة الأولى للقاصّة سوار الصبيحي «الماتريوشكا»، الصادرة عام 2020 بطبعتها الأولى، كما صدرت طبعتها الثانية هذا العام بعد حصولها على جائزة الدولة التشجيعيّة في حقل الآداب عام 2021.

    تتّخذ تجربة قراءة قصص المجموعة شكل الماتريوشكا قلبًا وقالبًا؛ فالماتريوشكا هي دمية روسيّة تحتوي في داخلها على دمية أصغر فأصغر وهكذا. وفيما تتكشّف «الحقيقة» في كلّ من هذه القصص شيئًا فشيئًا، يبدو أنّنا ننتقل معها من دُمية كبيرة الحجم إلى أخرى أصغر منها، حتى نصل إلى النهاية ونتساءل: هل من مزيد؟
    تُدرك الصبيحي جيدًا الخدعة الكامنة في فنّ القصة القصيرة؛ فنراها تُسرّب المعلومات إلى القارئة أو القارىء باقتصاد ودهاء، تلهو بكلماتها وحبكاتها القصصيّة جيدًا، وتتلاعب بالنهايات لتوسّع من أرضيّة فنّ القصّة القصيرة وإمكانيّته في حمل رسالة تتجاوز حجم القصّة وطولها بكثير.
    لا يبدو أنّ الصبيحي مُتحيّزة لشخصيّات النساء على حساب الرجال، إذ تُركّز على انتقاد عدّة مواضيع اجتماعيّة بنزعة إنسانيّة صافيّة، يُميّزها الإصغاء جيدًا للتفاصيل، ومراقبة الطباع البشريّة بأسلوب مُتّقد وساخر، وترقّب اللحظة المناسبة لقلب الأحداث بأسلوب سينمائيّ مُتقن في بعض القصص، ومسرحيّ تراجيديّ في قصص أخرى.
    كما تشتغل الصبيحي بمهارة على ألفاظها، تحرص على أن تُوظّفها كدالّة تتكرّر لتحقيق رسالة ذات أبعاد فلسفيّة أعمق ممّا تبدو عليه للوهلة الأولى، بالإضافة إلى أنّها تُمهّد لاستخدام هذه الألفاظ التي تحملها عناوين القصص أحيانًا، أو تردّدها الشخصيات كذا مرّة أثناء سردها، لتتلاعب بها لاحقًا وتنسج منها مُفاجآت سرديّة مُتعدّدة الدلالات في النهاية. في قصّة «بطولة» على سبيل المثال، تُفلح الصبيحي بإقناع جمهورها بدايةً أنّ الحوار الفلسفي الدائر بين صديقين هو ما ترتكز عليه القصّة بأكملها، وقبيل أن تنتهي القصّة، تُخرج القاصّة قصّة أخرى من جوف القصّة الأولى، كما لو أنّها تستعرضُ أمامنا دمية ماتريوشكا صغيرة كانت في داخل الدمية الكُبرى، لتقول لنا: انظروا، هناك المزيد من الحقائق؛ ليس ما تحاول الشخصيّات قوله فحسب، ولا ما أحاول قوله على لسانها أيضًا:
    «نخرج في حشود تزاحم الهواء، نجوب الشوارع ونبذل جهودًا اجتماعيّة في التعارف والحديث عن طموحاتنا ومحاولاتنا العصاميّة، وإنجازاتنا. نُفرغ ذواتنا كأبطال، وكشخصيّات مُتفرّدة، بينما نجلس إلى طاولات المطاعم الفاخرة، والمقاهي الشعبيّة، ومكاتب العمل، وفي الطرقات، وعلى صفحات التواصل الاجتماعيّة، وفي أي مكان وزمان تتاح لنا فيه فرصة الثرثرة عن أنفسنا ليظهر كل منّا بصورة عالية الجودة، كاشفًا منها ما يريد فقط بمهارة وحرفيّة، دون أن يبدو مُتكلّفًا، أو مُبتذلًا.. دون أن يُفصح عن رغبته السريّة بإبهار الطرف المقابل وزيادة رصيد الاعتزاز الذاتيّ. هذا نحن، ننشطر كل نهار إلى أنصاف لامتناهية داخل دوامة ساخرة من الظاهر والباطن..تسألني كيف استهلكت كل الرغبات والمشاعر؟ إلا هذا الملل يأبى أن يفارقني مهما انشغلت، ورغبة واحدة في إنهائه».[18]
    تُمعن القاصّة في انشطارات شخصيّاتها في هذه القصّة، ليتبيّن أنّ هذا الحوار هو عرض تمثيليّ في النهاية، وفيما ينهض المُمثّل مُغادرًا حيّز التمثيل، نكتشف أنّه مُنشغلٌ في همومه الشخصيّة والركض لعلاج ابنه المريض، لكنّه في خضم ذلك لا ينسى أن يُبهر الممرّضة أثناء زيارته للمستشفى، بمهنته كُممثّل: «بطل، أنا بطل». ورغم أنّ الصبيحي تنتقد بعمق هذا العفن المُجتمعيّ وحبّ الظهور وزيف المشاعر على حساب احترام الذات وتقديرها بشكل حقيقيّ، إلا أنّها تُضيء ذلك الجانب المُعتم في حياة كلّ منّا؛ الجانب الحقيقي الذي يجعل منّا أبطال قصصنا الشخصيّة، ولكن لأسباب خفيّة ومُغايرة لتلك التي نتفانى في استعراضها في الواقع.[19]
    أمّا اهتمام الصبيحي بقضايا النساء فيأتي كجزء من ظاهرة اجتماعيّة لحوحة تسعى لالتقاطها وتحليلها وانتقادها، لا كهمّ فرديّ أو اشتغال شخصيّ، بل كجزء من الثيمات الإنسانيّة الرئيسيّة في المجموعة القصصيّة. ودون أن تبدو مُنشغلة في البحث عن أسباب لإلقاء اللوم بشكل مباشر على جهة ما، تبتعد الصبيحي عن الأسلوب التلقيني والمباشر في البوح والشكوى إلى الأسلوب التحفيزيّ أو الاستقزازيّ بتعبير آخر؛ أي ما يُعمل أثره في العقل ويحفّزه بحثًا عن تفسير لهذه الظواهر الاجتماعيّة المُنتقدَة. يظهر ذلك على سبيل المثال في قصّة «ميديا ثيرابي»، حيث تكشف عن تفاني النساء الشابّات في استعراض جوانب حياتهنّ «المُفلترة» على وسائل التواصل الاجتماعيّ، فيما تختبىء الحقيقة البشعة في أدراج غرف النوم، كاشفةً عن عقد النقص والشعور بالدونيّة وباللاجدوى على المدى اليوميّ.
    تُعوّل القاصّة سوار الصبيحي في مجموعتها القصصيّة الأولى على صوتها الأنثويّ المُتفرّد في معالجة التفاصيل الاجتماعيّة الدقيقة ودمجها في رؤية فلسفيّة ذات أبعاد إنسانيّة مختلفة، وذلك بالاتّكاء على المعرفة المركّبة والمعقّدة لا الخطيّة والبسيطة، وهي في الوقت ذاته تعوّل بصورة أكبر على صوتها النقديّ الواعي والمسيطر نوعًا ما، مهما بدت معظم الأشياء خارجة عن سيطرة الصوت الأنثويّ في نظر المجتمع الذكوريّ المتعالي على «الأدب النسائي».[20]

    خاتمة
    تتعدّد انشغالات القاصّات الأردنيات الثلاثة في أولى أعمالهنّ القصصيّة بين سياسية-اجتماعيّة، وحسيّة-جماليّة، واجتماعيّة-فلسفيّة، دون أن تجعل من القضايا النسويّة همّها الأكبر والأوحد. ورغم أنّ الساحة الأدبيّة الأردنيّة ما زالت تفتقر إلى المزيد من الأصوات النسويّة الواعية في الوقت الحالي، بغرض خلق نماذج نسائيّة مُتمرّدة وواعية تشقّ طريقها إلى المِخيال الاجتماعيّ الأردنيّ، يُمكن لنا أن نقرأ اشتغالات القاصّات على صوتهنّ الأنثويّ المُتفرّد في الكتابة، بعيدًا عن التبعيّة والتأثّر الجليّ بأساليب غيرهنّ، على أنّه بادرة أدبيّة لا يُستهان بها في الحقل القصصيّ النسائيّ الأردنيّ في الوقت الحالي.
    وإن نحَت هؤلاء القاصّات منحىً إنسانيًا عامًا في قصصهنّ، عبر توظيف شخصيّات من النساء والرجال على حدّ سواء، بعيدًا عن التركيز على قضايا النساء بشكل خاص، فأعتقد أنّ التركيز على اختلاف نظرة الكتابة النسائيّة عن غيرها وأسلوبها المميّز في المعالجة الفنّية يظلّ أمرًا في غاية الأهميّة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ البيئة والدور الاجتماعيّ الذي تؤديه النساء يُساهمان إلى حدّ كبير في صقل الرؤية الفكريّة، وتفريغ القدرة الحسيّة عند الكتابة.[21]

    المؤسسة الإعلامية “حبر”