مفلح العدوان
«راغباً في الرؤيا..
منبثقا من جوف الصخر، ولا أحد سواي!
بريشتي أرسم المكان..
قُدِدْت من صخر، أنا وليد عرس الرمل والضياء.. أنا عصارة السماء!
أعلنت ذاتي، على غفلة من الفجر، وتلفّعت جسدي قبل أن يدري المساء».
هكذا كنت أخُطّ قصصي، أرقمها، أسطُرها، أُأَسطرها، أنقشها، حين يملي حكاياتها المكان عَليّ، فأُقلّب صفحاته وذاكرته وتاريخه وسيرته الأولى والثانية والآخرة والأخرى، فأكشفه، أكتشفه، أسبره، أسائله، أحاكيه، أحاكمه، أراوده، حتى أكشف طبقاته الأدنى، وأتلمس طبقاته الأعلى، فيغويني أكثر، يغريني، يتلبسني، يستلبني، حتى أتحرر منه حين أكتب قصصي، فأشهد بما أكتب على المكان، وعليّ، وعليكم، وعلى تراكم السنين وهي تروي حكاية واحدة، بينما القصة هي عناقيد من حكايات غُيِّبت، ولم تُروى بعد.
لا تُصدّقوا الحكايةَ بثوبها العادي، بردائها المكرور، المَروي، ذاك أن للحكايةِ حكاياتٌ أبعد من المنطوق الشفوي، أعمق من المُدوَن الرسمي، وأنا كما أنا، وريث أجدادي من غير سلالة دمي، أجدادي في القصة يقينهم الشك، تسليمهم المغامرة، ولا يركنون إلى السائد بل تتقرّب أرواحُ هواجسهم من شياطين غواية الأسئلة، توقًا لتكسير أوثان السَهل من الأجوبة.
أنا من هناك..
أنا.. وريثُ أحرفٍ لم تُنَقَط ولم تُشَكّل بعد، فالحرف أسطورة الوعي، عَبقر التجلي، ثَوب الهَجس، ثواب القلق، مقام اللاء، ترتيلة اقرأ، ترنيمة سَلْ، حقيقة «ما ضلْ»، ظلال النونِ، وحيرة «ما يسطرون»، الحرف منزلة اختلاط اليقين بالجنون، و»الحرف يسري حيث القصد.. جيم جنة.. جيم جحيم».
وحين تهيأت لكتابة «النباح الأخير»، كان ذئب الحرب يعوي، كان فينيق الحرف ينبثق من فردوس الأرض ليروي، يُبعث، يتجلى، يتعالى، وكل الأمكنة مشوقة للبوح تغني أن «هيت لك، ما أجملك».
تَلبَّسني الفينيق، فصرت أجمع قمح الحكايات، أُغربلها، أحاكيها، أسمعها، أناجيها، أحاكمها، وأبحث عن المسكوت عنه فيها، فلم أكتبها من وراء مكتبي، ولا بحبر دواتي، بل اقتفيت أثرها، ارتحلت معها، زرت أبطالها في أماكنهم، عشت مع شخصياتها في أزمنتهم، فالمتعة أن تكون في القصة حين تكتبها، لا أن تكون كاتبا لها.
أنا الآن هناك..
سَلّمت على الفتية النائمين من أهل الكهف، سمعت شكواهم، وضجرهم، حين عادوا عدّة مرات، فكانت خيبتهم أكثر من نشوة استعادة حيواتهم.
عانقت قرب نهر الأردن النبي إيليا، قبل أن يركب عربة خيول النار نحو الأعالي، وهو يستودعني النهر بضفتيه.
استمعت لعتب وخذلان ناقة صالح حين بيعت قبل أن تُنحر قرب وادي رم.
بكيت مع أطفال بني عوف الذين بُنيت على أشلاء آبائهم قلعة عجلون.
زرت راهب الزرقاء وهو يرثي تقلبات قصر شبيب بين طامع وجاحد.
كتبت شهادة غياب البحر الميت بحبر الملح والعذاب.
وتاهت الخرائط مني بين مفترق المفرق، وفسيفساء ميفعة.
قرأت ماء عفرا، مغموساً بدم الجذامي، وبحثت عن ميشع في اشتعال غربة اللهب بأحرف مسلته.
في ترحال الكتابة هذه، كان زمن المكان يحاكي آلام سيزيف ولا ينتهي، بل يتكرر، كأنه مشبع بعذابات الوجود مذ لثغة البدء حتى كفن النهاية.
صار الزمان كما المكان ساكن جامد، ولا خلاص لكلا الاثنين، «الزمان والمكان»، إلا باستنهاض حياة الناس المهمشين، وذاكرة شخصيات الملهمين، ليكون خلاص المتعبين.
هناك.. لم أكتب «النباح الأخير» بما تيسر لي من حروف وكلمات، بل بالخطوات التي عايشت بها خريطة مواربة زرتها وعرفتها وتعبدت فيها، وأزيد أنني كتبتها بمسبار أذنيَّ وهي تستمع لحديث الصخر والرمل والحجر، وبعينيّ التي كشطت السناج عن فانوس الأمكنة لتتكشف أماكن أخرى.
هكذا عشت كتابتي وقصص النباح الأخير، متتبعا حدود بلاد ضاقت بها الجغرافية، ولم ينصفها التاريخ، غير أنها تحمل هم الإنسانية، وحلم الإنسان، حتى وإن ضاقت بها السُبُل.
شهادة إشهار كتاب “النباح الأخير”، في منتدى عبد الحيد شومان الثقافي، يوم الإثنين الموافق 23/6/2025م.
(مفلح العدوان، صحيفة الدستور، 11/7/2025).