خديجة مسروق
(كاتبة من الجزائر)
ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، والحياة تهب عطاءها لمن تشاء وتحرم منه من تشاء. يولد المرء ويولد معه حلمه، كلما كبر ازدادت رغبته في تحقيق ذلك الحلم يوما ما. غير أنه في بعض الأحيان تأتي أسباب خارجة عن إرادة المرء تحول بينه وبين الوصول إلى ما يريد، فتتعثر أحلامه التي كان قد رسمها في خياله، ويباغته القدر بأحلام أخرى.
“الورقة في الحائط” رواية للكاتبة الأردنية نور أحمد شروخ، صدرت عن “الآن ناشرون وموزعون” (2023)، شخّصت فيها الروائية حالة المرء حين يقطع سكّين اليأس كل شرايين الأمل في تحقيق طموحاته إذا حَكم عليها القدر بالموت.
“مراد” بطل الرواية ينتمي إلى عائلة شركسية بالأردن. أبوه الحاج عزالدين وأمه الحاجة سورية. فتى طموح ومجتهد، كانت أحلامه تكبره وهو لم يلتحق بالثانوية العامة بعد. فهل سيجد الطريق أمامه معبّدا للوصول إلى حلمه؟
تميّز مراد بحب الاكتشاف والشغف بالبحث العلمي والرغبة في الوصول إلى الفضاء. فمكان أحلامه يراه هناك في الفضاء. وهو مولع بالتخصصات العلمية والفيزياء خاصة بشكل كبير.
بعد دخوله الثانوية العامة راح يرسم مخططاته العلمية، يراوده الأمل في تحقيق طموحاته وأحلامه. كما كانت صديقته “تاتيانا” تخطط لمستقبلها بدراسة الفلسفة أو علم الاجتماع.
بعد تحصُّلهما على معدل جيد رَشّحت تاتيانا لنفسها علم الاجتماع، وانطلق مراد لإخبار والديه بنجاحه، مبتهجا وهو يرى نفسه قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى حلمه، وهو دراسة الفيزياء. لكن تلك الفرحة لم تكتمل، لأن الوالد عزالدين لم يقتنع بالتخصص الذي كان متحمسا له مراد. فالطالب بالنسبة له حين يفكر في دراسته الجامعية عليه أن يأخذ بعين الاعتبار أشياء أكثر أهمية من رغباته الشخصية.
الحاج عزالدين يدرك أن ابنه إذا درس الفيزياء سيصبح بعد التخرج مجرد معلم، يقبض راتبا بسيطا لا يمكنه من من الزواج وتكوين أسرة والإنفاق عليها. لذلك يرى أن على مراد أن يفكر بمجال العمل والحياة، ويختار تخصصا يضمن من ورائه عملا براتب يلبي طلباته المادية ويحقق له مكانة اجتماعية ذات أهمية. طلب عزالدين من مراد بأن يختار دراسة القانون، لأن القانون بالنسبة له يحمي أولئك الذين يفهمونه، ليعرفوا كيف يحتالون عليه.
تنازل مراد عن حلمه الذي اجتهد طوال مشواره الدراسي لأجل تحقيقه. فها هو والده بعد نجاحه بالثانوية العامة بمعدل جيد يؤهله لدراسة الفيزياء، يسلبه حلمه ويرسم له مسارا آخر لحياته. يتحطم أمام مراد كل شيء. يصبح شخصا آخر فاقدا للشغف. يبدو عليه اليأس واللامبالاة بعد التحاقه بكلية الحقوق. تغيرت حياته ولم يعد ذلك الشاب المليء بالحياة والأمل. ظلت تاتيانا إلى جانبه تحاول أن تزرع أمامه ورود الأمل من جديد بإخراجه من حالة اليأس التي أصبح يعيشها.
عزالدين يرى بأن دراسة مراد للحقوق تجعله حين يتخرج ويتوجه إلى معترك الحياة يملك قوة لا يمكن أن يفهمها وهو ابن الثامنة عشرة.
يصاب والد مراد بجلطة دماغية، تتدهور حالته الصحية ثم يفارق الحياة، وتنتقل مسؤولية إعالة أسرة عزالدين إلى الابن مراد. يتصل به محامي العائلة ليخبره بأن والده كان حريصا على تأمين حياة أفضل لأبنائه وزوجته، لكنه وقع ضحية نَصْب من طرف أحد زملائه بالعمل، تآمر عليه مع سمسار واشترى منه أرضه بثمن قليل بدعوى أنها لا تصلح للاستثمار لأنها تقع في منطقة بعيدة، واقترح عليه شراء أرض أخرى وبناء مخازل تجارية عليها. ابتاع عزالدين قطعة أرض وشرع في بناء المخازن، ولأن المبلغ لا يكفي، لجأ للاقتراض من أحد البنوك لإكمال مشروعه. واكتشف في النهاية أن زميله أخفى عنه أن المشروع كان مرفوضا لأنه لم يستوفِ الشروط لتوافق عليه أمانة عمان. وبدأ البنك يطالبه بتسديد الديون.
كان عزالدين يعلم أن ابنه مراد يجهل بأن الأشرار موجودون في كل مكان، وأن الكثير منهم وسيمون يرتدون بدلات وربطات عنق، ويجلسون في أماكن مهمة مثل مقر الاستشارات العقارية والإدارات واجتماعات الجمعيات الخيرية، يتحدثون عن عمل الخير وإفادة الناس. أدرك مراد حينها سبب إلحاح والده عليه لدراسة تخصص القانون، ووجد نفسه مضطرا للعمل كي ينفق على ووالدته وأختيه ويسدد ديون والده، فتوقف عن دراسته الجامعية واتجه للعمل. مِن حلمٍ بالعمل في المركز الأوروبي للبحوث النووية بسويسرا إلى الطلاء والفرشاة. عمل مراد دهانا ونجح في عمله وتزايدت عليه عروض الزبائن، لكن غصة ظلت بداخله لأنه لم يحقق حلمه في دراسة الفيزياء.
عرف مراد من أستاذ الفيزياء الذي كان يدرّسه أن هناك فجوة بين الحلم والواقع، وأن الذين يحققون أحلامهم هم أولئك الذين يقفزون على تلك الفجوة، غير أن الذين يقفزون على تلك الفجوة عادة ما يدفعون الثمن، قد يكون الثمن بسيطا وقد يكون غاليا.
تحكم الظروف على أحلام مراد بالموت، بالأمس تنازل عن حلمه في دراسة العلوم، وها هو اليوم في سن الأربعين تجبره الظروف مرة أخرى للتخلي عن حلمه في تكوين أسرة. مراد يتنازل عن مشروع الزواج، وتاتيانا التي جمعته بها قصة حب صادقة لسنين طويلة يرى نفسه غير جدير بها، وهي التي تنحدر من عائلة غنية، تسكن في بيت بحي أرستقراطي، درست في مدارس اللغات بمصر وتخرجت في أعرق مدارس عمّان الخاصة. فهل بمقدوره أن يوفر لها حياة سعيدة.
أبدت تاتيانا لمراد استعدادها للتنازل عن الأشياء الشكلية أو التي كانت تراها شكلية، غير أن كرامته رأت هذا العرض جارحا. كيف له أن ينسى الفوارق الاجتماعية بينه وبينها، وماذا سيكون موقفه لو قالت عائلتها يوما بأنه احتال على ابنتهم وتزوجها، وهو الرجل البسيط الذي ليس بإمكانه أن يوفر لها حياة مثل التي كانت تحياها؟
في الأخير، يتصالح مراد مع واقعه البسيط بميلاد مراد البسيط، الذي لا يحق له أن يتطلع إلى أي شيء حتى الحلم. وضع كل مخططاته خلفه بما فيها مشروع الزواج.
وبينما هو يقوم بطلاء أحد الجدران، وجد طوبة قد انحرفت عن مكانها، دفعه فضوله إلى إزاحتها ليكتشف أن هناك ورقة تحتها. الورقة السرية كُتب عليها “تخص المحترم عزالدين”، وراح السيد عزالدين يدون حلمه على الورقة السرية يقول فيها: “يجب عليّ أن أكتشف يوما طريقة أصنع بها هاتفا لا سلكي يرى فيه المتكلم من يتكلم معهم، وأجد طريقة تجعل من المغناط طائرة تطير”. ويضيف بأن عليه أن يبقي حلمه هذا سرا حتى لا يسرقه المخترعون الآخرون. عرف مراد ساعتها كيف يتحول الحلم، حلم الاختراع والبحث العلمي في الوطن العربي إلى مجرد ورقة في الحائط.
نور أحمد شروخ تضع يدها على الجرح، تنقل صورة واقعية عن المصير المجهول الذي ينتظر خريج الجامعة في البلاد العربية، وأن العلم وعالم الاختراعات لا مستقبل لهما في بلادنا وكأن الجامعات العربية تعيش خارج الزمن.
ما الفائدة من الشهادة الجامعية إذا كان مصيرها جدارا تعلَّق عليه داخل برواز للزينة؟ ما قيمة الشهادة الجامعية إذا كانت لا تضمن لحاملها عملا يقبض من ورائه دخلا يحقق له مستوى مقبولا من العيش الكريم؟
إننا نفتقد إلى القدرة على المواءمة مع روح العصر. هناك مسافة زمنية كبيرة تفصلنا عن التطورات الحاصلة في العالم المتحضر.
فكرة الرواية عميقة، جاءت بأسوب سردي مباشر، معظم شخصياتها من الشركس. وهي تستحضر عادات وتقاليد الشراكسة بالأردن. ما يُعاب على النص اهتمام الروائية بتفاصيل قد لا تعني القارئ في شيء.
إن الحلم شيء والواقع شيء آخر، فهناك أشياء ليس مقدراً لها أن تحدث مهما حاول المرء تحقيقها. يصبح الواقع هو صاحب السيادة، فتتحطم أمامه كل الأحلام. فهل أمام واقع بائس مثل واقع مراد يبقى هناك مجال للأحلام؟