بسمة النسور
أكّدت الكاتبة الأردنية سميحة خريس، في روايتها “بقعة عمياء” (دار الآن ناشرون وموزعون، عمّان، 2019)، حضورها الروائي القوي والمتميز عربياً، كما فعلت ذلك في رواياتها السابقة التي مكّنتها من الحصول على أرفع الجوائز الأدبية محليا وعربيا، غير أن “بقعة عمياء” انعطافة لافتة في مسيرتها الإبداعية. ويمكن القول إن سميحة خريس تجاوزت نفسها، حين اخترقت التابوهات التقليدية، وحكت كل شيء من دون مواربة، معتمدةً لغة مكاشفة مباشرة، لا تخلو من خشونة، حاولت من خلالها نكء جراح جيلٍ بأكمله. وتمكّنت من إضاءة مرحلة صعبة، تخللتها هزائم وخيبات وانطفاء أحلام، بمهارة جرّاح يدرك جيدا موطن الألم. ولا يبيع مريضه وهم التعافي، ولا يبشّر بخطيئة الأمل المضللة. اعتمدت سميحة تقنية الأصوات المتعدّدة، ما أتاح فضاءً روائياً واسعاً متنوّع المستويات، وأطلقت شخصياتها لتعبّر عن نوازعها وإخفاقاتها في منأى عن الأمثولة والإدانة المسبقة. لم تدّع أي منها بطولاتٍ زائفة، بل ذهبت بعيداً في البوح الجارح الصادم، في هجائية قاسية لواقعٍ قبيحٍ بالغ القتامة، امتثلت لشروطه وتواطأت معها، وغدت نتاجاً مشوّهاً لها. شخصيات تنتمي إلى الطبقة الوسطى التي تآكلت وذوبت وعبّرت عما اعتراها من تحولاتٍ أجهزت على ما تبقّى لديها من أمل بحدوث تغييرات، فظلت رهينة واقعها، عاجزة مستلبة مستسلمة إلى مصائرها من دون أدنى مقاومة. وقد اختلت منظومتها الأخلاقية، بفعل أحداث سياسية جسيمة اجتاحت المنطقة، مثل غزو العراق، وسقوط بغداد، وثورات الربيع العربي.
سلطت سميحة الضوء على أثر تلك الأحداث، من دون اتخاذ موقفٍ محدّد منها. رسمت ملامح الشخصيات بدقة وبراعة، وسردت من خلال صوت نوال، الشخصية المحورية في الرواية، تفاصيل موجعة، تنتهي، بالنتيجة، إلى خيبة الأمل وانعدام اليقين. نوال موظفة البنك الجامعية، فتاة أردنية، ليس فيها ما يميّزها، غير مسيّسة وغير معنية بالشأن الثقافي. لديها أحقاد طبقية عزّزتها طبيعة عملها مع أثرياء يودعون مبالغ طائلة في البنك، وينعمون في ترف العيش، فيما هي تعاني من محدودية مواردها. تقع في غرام مثقفٍ يستخدم مصطلحاتٍ مركبة، تثير الإعجاب، ليتضح، فيما بعد، مقدار زيفه وادعائه، لتحل الكراهية والبغضاء في علاقتهما الزوجية الفاشلة، والتي تؤدي إلى تفكك الأسرة وضياعها. البنت الكبرى تهرب من جحيم الأسرة والتباس العلاقة مع الأم إلى علاقات حب فاشلة، تتعرّض في أثنائها إلى الاستغلال، قبل أن يتخلّى عنها حبيبها الشاعر، حين اكتشاف حملها. تنقذها الأم من الفضيحة، وتساعدها في التخلص من الجنين، غير أنها لا تنجح في ثنيها عن الزواج من رجلٍ ثري في عمر والدها، يصطحبها إلى مقر إقامته في دبي، زوجة ثانية، تجدّد شبابه الضائع، وقد امتثلت لأوامره بضرورة ارتداء الحجاب، كونه رجلا محافظا. وتفشل كل محاولات الأم في علاج ابنتها الصغيرة الضريرة نور، لتظل أسيرة العتمة والحب المستحيل لمعلّمها في المعهد الذي أحاطها بالرعاية والحنان، مدفوعا بالشفقة. أما الابن الفاشل الذي اعتاد إثارة المشكلات، فينتهي به الأمر في سورية، ملتحقا بالمنظمات الإرهابية التي صنعتها أنظمة الاستبداد، وأدا لحلم شعوب المنطقة بالتحرّر. وفي ظل الفراغ والخيبة، تنخرط الأم في علاقةٍ حسيةٍ مشوهةٍ مع مالك البيت، ويصمت الزوج المثقف، غير المخدوع، مدّعيا الجهل بالخيانة التي كانت مكشوفةً للجميع، نظرا للفائدة المترتبة، بتغاضي المالك عن تأخرهم في تسديد قيمة الإيجار إلى أن ينتهي به الأمر مريضا بالزهايمر الذي أتى على ذاكرته. تفاصيل شيقة مثيرة، تنطوي عليها هذه الرواية الشائقة في سردها الأحداث، وفي رصدها الأماكن، ما يدفع القارئ إلى الإحساس بالألفة والتعاطف غير المحدود مع الشخصيات، حين تعترف، وتتداعى وهي روايةٌ جديرةٌ بالاقتناء.