يحاكي الشاعر الأردني نضال برقان المرأةَ- الحياة، والمرأةَ- الوجود، والمرأةَ- الأنا في خطاب شعري تمتزج فيه الذات بفائض الكون المتبقِّي من الأسئلة الوجودية التي يحاول سبر أجوبتها ولو “ندمًا”. ففي مجموعته الشعرية “تحت سماء واحدة”، الصادرة عن دار (الآن ناشرون وموزِّعون) في عمَّان 2022، تنهض لغة برقان بأعباء السؤال المُتداخل بوجوه الطبيعة تحليقًا “سماءٍ واحدة”، تلمُّ مفردات الحبِّ بطبيعته الإنسانية الأشمل محاولًا أن يحدِّق بـ”حقيقيتها” بعين قلبه أولًا.
يستخدم برقان قصيدة النثر ليعبِّر عن ذاته وكأنَّه يقف وحيدًا، مستعيرًا صراخ الشاعر الفرنسي شارل بودلير في كتابه (طحال باريس): “من منَّا، في لحظات طموحه، لم يحلم بمعجزة النثر الشعري، الموسيقي، بلا إيقاع ولا قافية، مرن وقوي بما فيه الكفاية ليتكيَّف مع نبضات الروح الغنائية، وتموُّجات الخيال، سخرية من الوعي؟”.
“أمٌّ كونية واحدة”
“أعرف أنَّكِ في مكانٍ ما هناك تُغنِّين للأمل وتُحيكين ملابسَ جديدةً للحقيقة وتزرعين النجوم في حوض نعناع”.
اللغة الشفَّافة الممزوجة بتفاصيل الطبيعة المرئيَّة التي تتجلَّى في عنوان القصائد كـ”تعشيب في حديقة البهجة، رصاصةٌ ذهبية من السماء، احتفال من أجل حصان النشيد، وسواها”، وصورة الكون الواسع المُتجسِّد في “حبيبةٍ مُخاطَبة”، يبعث من خلالها برقان قصائده- رسائله المسكونة بالهواجس والارتياب، بالرغبة والنكران، بالحقيقة البسيطة المجرَّدة وأشباهها.
لغةٌ في منتهى الشعرية تؤسِّسها الذاتية مفرطة الحساسية، يتنقَّل صوت الشاعر فيها بين النداء المرتعش والابتهال، الصراخ الجريء الباحث عن العدالة في جحيمية الحرب، تحضر فيها صورة الأمِّ بصورتها الكونية:
“تستطيعين معرفةَ كلِّ شيءٍ عنها إذا نظرتِ إلى أمِّكِ من خلالِ ثقبٍ في القلبِ أو شَرخٍ في جدارِ الروح هما شقيقتان… ولدتهما أمٌّ كونيةٌ واحدة”.
يتفاعل فيها النثر بإيقاع الحياة اليومية وتجلِّياتها، قد تبدو للوهلة الأولى شاحبة، حزينة، دامية لما تعكسه من صور الحرب والدم النازف عبر تاريخنا الإنساني الطويل لكنَّها تسعى جاهدةً لتمنح الأمل قُبلة الحياة مجدَّدًا. قصائد تخلق تناغمها الخاص من خلال موسيقاها بين تموُّجات المفردات الحالمة ويقظة الواقع المرير تسير على الخطِّ الرفيع للملهاة البشرية.
“السماء- المكان”
يؤسِّس برقان خطابه الشعري على مأساة الإنسان المعاصر، ويعيد تشكيل الوجود عن طريق النفي في محاولة لبثِّ الروح في “إنسانية ضائعة” فقدت هويتها اليوم، ملتجئًا لـ”سماء” ليس في رمزيتها المقدَّسة المألوفة، بل كونها ضديةً حالمة لكلِّ ما هو أرضي مأزوم بما يعيشه عالمنا من حروب وكوارث وبشاعات، يأكل ما تبقَّى من روح الإنسان. فهو يبتعد عن اللغة الأسطورية وبناء نصِّه الشعري عليها لحساب تكريس “صوته الخاص” ولغته “هو”:
“العزلة أكثر قتامةً ممَّا توقَّعت أوسع من جرحٍ في خاصرةِ العالم”،
أيضًا:
“تُرى أينك الآن: كيف فرَّت عصافيرك من جسدي؟ كيف لم تستطع شفتاي الاحتفاظ بأغنياتك؟ وصوتك… كيف استطاع أزيز الرصاص اختطافه من أذني؟”.
يتداخل “التأنيث” في لغة المجموعة، معيدًا خلق الإشكالية متسائلًا أين نحن بعد كلِّ هذا الموت؟. ويتراوح بين المباشرة والترميز، الوضوح والتخفِّي في سلاسة لذيذة، باحثًا عن أنثاه أو “حقيقته” في جسد العالم- الغيمة، العالم- البحيرة، والعالم- الصحراء. مطلقًا العنان لصوته في صورتها المتكاثرة- المتنافرة ليعود إليه كصدى لتبدو القصيدة لديه وكأنَّها “تتأمَّل ذاتها”.
ليخلق من الكلمة والغابة والأغنية والجسد سماءً يشحنها بقوَّة الشعر، فكلُّ النصوص تمثِّل هذا الانعكاس المدهش بين التصوُّر والصورة، بين ما هو مرئي وخفي، الذات والعالم في قلب شاعر يريد التحليق أبعد نقطة في الكون الرحيب خارج قبَّعة الوصايا لا يرى في اللغة إلا تمرُّدًا وانحيازًا لروح الإنسان، تظهر هذه الروحية فيما يقوله في نصِّ “كُنت عود ثقابٍ قبلكِ”:
“كنت شاعرًا قبلكِ كتبت قصيدة تفعيلةٍ عن ناس في “متحف الحياة الشعبية” وبمرورك بي كتبت قصيدة النثر عن ناس تشبهنا تقضي نهارها في خدش الرتابة وليلها في العواء”.
“السماء” المرجوَّة والمناداة بكثرة في أرجاء المجموعة تمثِّل الفضاء- الحلم، الذي يبدو مطروقًا ومكرَّرًا سابقًا لكنَّه هنا لا يشبه إلا ذات صاحبه أولًا وأخيرًا موجِّهًا نداءه للحرية قائلًا:
“أيَّتها الحرية… الآن أضبط إيقاع قصيدتي وفقًا لأوزانكِ وأبدأ من جديد”.
لغة بصرية
يتنقَّل الصوت الشعري لدى نضال برقان بين أكثر من مستوى في تشكيل الصورة الشعرية من خلال نصوص المجموعة، فأحيانًا نراه يستخدم الصراخ الموجود في “شعر الأداء” الذي يتَّكئ على التصريفات الصوتية والإيماءات المسرحية. وتارةً ينحو باتِّجاه “الشعر التفاعلي” الذي يوازي بين عناصر الصورة وحركيَّتها، ما يغذِّي “ديناميكيتها” التي تمنح للقارئ الإحساس بالحركة أو التغيير داخل النص نفسه. مع استخدام موجز ودقيق للغة.
فهو يلخِّص الأفكار في أقلِّ عدد ممكن من الكلمات. وهذه إحدى السمات الرئيسية التي تميِّز شعر النثر، هذا ما نجده يتجلَّى بالإيقاع الشعري الراقص المُدهش في نصِّ “لماذا لم نرقص سويةً إلى الآن؟”:
“تسعى الغيمة… والعصفور يسعى… يقفان مرة ويركضان أخرى يتهامسان مرة ويتصايحان أخرى ويدوران حتى يحيلا السماء لوحة مليئة بالورود والفراشات يحيلا الأرض حكاية خضراء ويحيلا الحقيقة تلك التي اغتالتها الحرب حقيقة من جديد…”.
كذلك تبرز المشهدية في نصِّ “تركة الشاعر” الذي يحاكي ما بقي من أثر الوجود الذي دمَّرته آفة الموت والحرب المُتوَّج بالقفر، عائدًا إلى “بستان طفولته”، تاركًا الحرب “تُحطِّم أصنامها”، وترحل “بعيدًا في الغناء” قائلًا:
“أترك المشهد يتأرجح بين الأبيض والأسود ولا أزعج طفلةً غافلتنا وأكلت قوس قزح ثم غطَّت في سبات عميق. أترك خيط القصيدة في هبوب النهايات………… لعتمةٍ ماردةٍ أو جثةٍ دامسة”.
وتكتمل المشهدية السابقة بتشريح شعري للخراب الذي نتحسَّسه اليوم حول العالم، بفعل الحرب التي دنَّست فكرة الحياة. فيستخدم برقان الشعر كمفتاح هيكلي لباب وعي الإنسان بذاته وكينونته، يسكنه هاجس السؤال أكثر من الإجابة ذاتها من خلال النفَس الصوفي الذي ينسجم مع ندائه الخاص بأنثى عليا باحثًا عن “شمس اليقين والحنين، أشياؤك تلك… أين أجدها بعد رحيلك”. ثمَّ مستخدمًا نداء الأمِّ بقوله: “يا أمِّي… وأمَّ الغياب، بينما تنعمين بالطمأنينة في عين الله، قصيدتي تكلَّست”.
أو الاستفزاز تارةً أخرى، كما يقول في نصِّ “حرب تعبث في دفتر العائلة” مستعيدًا صورة القتل الأول فيقول: “لا براكين في الجوار، لكنَّ الحمم تملأ السماء، والصهارة تُرسل كلَّ شيء إلى العدم”. بينما تحيل الحرب العالم إلى “جثة شاسعة” حوَّلت قلبه لـ”حجر”، وجعلت نايه “قطع غيار لأسلحتها”، وسرقت منه غناءه واستبدلت به الرصاص. بينما يتأمَّل العالم الخراب أنثاه- الرحمة وهو يتحطَّم في انتظار العدالة.