“وكالة الأنباء العمانية”
يضمّ كتاب “قصائد الهايكو” قصائد مختارة للشاعر الياباني ماتسو باشو (1680-1730) ترجمها إلى العربية وقدم لها الشاعر الأردني المقيم في سلطنة عمان رأفت خليل.
وبحسب المترجم، يُعرّف الهايكو الياباني على أنه بيتٌ من الشعر يتكون من 17 مقطعًا صوتيًّا، ويُقسّم إلى تقطيعات متتالية (5، 7، 5). وقد نشأ في القرن الرابع عشر للميلاد، ثم أصبح شكلًا مستقلًّا من الشعر في أواخر القرن السادس عشر. ويوضح خليل في كتابه الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” بعمّان، أن “الهايكو” يبحث عما هو مدهش في الطبيعة ليفرغه بفنّ كتابي محدد ذي تقاليد صارمة، ساعيًا لنقل الدهشة مثلما تفعل كاميرا ذات تقنية وضوح عالٍ، إلا أن هناك شيئًا ربما أغفلته التقنية الحديثة واحتفظ به “الهايكو”، وهو الفلسفة المتمثلة بالسعي إلى الحقيقة الكامنة في بواطن الأشياء، ومحاولة الخروج بالمشاهدات الطبيعية من معناها الظاهري إلى معناها الخفيّ.
وبناء على بحث المترجم، فإن قصيدة “على فرعٍ بلا أوراق/ وحيدًا جثمَ غراب/ بداية مساء خريفي”، تعدّ على الأرجح هي أول قصيدة هايكو فاجأ بها “ماتسو باشو” مدرسة دانرين. وكان الوصف البسيط الذي أثارته هذه القصيدة، وكذلك الاقتران أو الربط بين حادثتين أو ظاهرتين مستقلتين عن بعضهما بعضًا (فرع بلا أوراق – غراب) هي السمة الجديدة والمميزة لأسلوب هذا الشاعر. وهكذا، يمكن القول إن “باتشو” يعزى له الفضل في ترقية “الهوكو” إلى فنّ جادّ ومستقل ومكتفٍ بذاته، وأصبح يُطلق عليه في ما بعد “هايكو”، إذ يجسّد الشكلَ الأكثر كمالًا للبيت الشعري المستقلّ، وبقي كذلك حتى زمننا الحاضر.
يستهل رأفت خليل كتابه بإطلالة على حياة “باشو” الذي وُلد عام 1644، ودرس الشعر وحصل على إشادة كبيرة لاستخدامه شكل “الهايكو” الجديد، وفي عام 1683 نشر مجموعة “هايكو” بعنوان “أيام الشتاء”، وفيها أعلن أسلوبه الثوري في كتابة “الهاكاي/ الهايكو” المختلف عن أسلوب كتابته المعروفة آنذاك. ويوضح خليل أن أجواء فصل الشتاء كانت عاملًا ملهمًا لـ”باشو” في كتابة قصائده تلك؛ فقد حرص الشاعر على تناغم نصوصه مع جماليات الطبيعة وقوتها تعبيرًا عن الجمال الذي ينطوي عليه العالم. وفي عام 1686 وضع “باشو” كتابًا آخر هو “أيام الربيع”، اشتمل على قصائد من بينها تلك التي تعدّ أشهر قصيدة هايكو معروفة على مستوى العالم وهي قصيدة الضفدع: “بركة قديمة/ ضفدع قفز/ طشش”.
ووفقًا للمترجم، فإن ذلك الأسلوب المبتكر الذي يعبّر عن بساطةٍ ظاهرة، عكسَ رفضَ الشاعر للتعقيدات التي فرضتها طريقة الكتابة الشعرية القديمة. وليس المقصود بالبساطة هنا بساطة طريقة كتابة القصائد ابتداءً، بل البساطة التي انتهت إليها بشكلها وقدرتها القوية على التعبير ونقل الصورة وما تحملها من لحظة شعورية مكثفة.
ولفت خليل إلى أن هذه الترجمة لقصائد باشو “خلاصةُ تراجم عدة إلى الإنجليزية”، فقد اطلع على ترجمات كثيرة بعضها ليابانيين ترجموا القصائد نفسها إلى الإنجليزية، ما مكّنه من الوصول إلى المعنى الأكثر ملاءمة للقصائد من خلال المقارنة وملاحظة الاختلافات الطفيفة وسببها المبنيّ على الفهم العام للقصيدة. واتبع المترجم في هذا الكتاب، الأسلوب نفسه الذي اتبعه أغلب المترجمين إلى الإنجليزية، من خلال وضع قصيدة الهايكو بحسب نطقها وكتابتها بالأحرف اللاتينية، وبترتبيها الأبجدي اللاتيني. وهي الطريقة التي أصبحت شائعة، لأنها تساعد بالوقت نفسه على التدليل على القصيدة المترجمة، وتمييزها عن سواها. ذلك أن هناك الكثير من القصائد التي تبدأ بالكلمة نفسها أو تحوي الكلمات نفسها، وتبدو متشابهة شكلًا، لكنها مختلفة عن بعضها بعضًا من حيث المعنى. وهذا يجعل وقوع اللبس أمرًا محتملًا.
ويؤكد خليل أن اعتماد طريقة النطق لقصائد الهايكو وتثبيتها بالأحرف اللاتينية وبحسب نطقها باللغة اليابانية كان “أمرًا في غاية الأهمية”، إذ ساعد على سرعة تمييز الواحدة عن الأخرى، وفي الوقت نفسه أعطى إشارة واضحة إلى أن وقع صوت المقاطع له دور حيويّ في بناء قصيدة الهايكو اليابانية. فـ”طريقة نطق بعض القصائد لا تخلو من قافية واضحة، وبعض المقاطع يتم نطقها بسرعة وبعضها الآخر ببطء، عدا الوقفات بين المقطع الصوتي والذي يليه”. ويؤكد خليل في مقدمة الكتاب أن هذا الأمر لا يمكن نقله من خلال الترجمة على الورق، لكن قارئ “الهايكو” يمكن أن يدركه بذائقته الشعرية السمعية. مضيفًا أن هذه قد تكون من أهم مشكلات ترجمة الشعر بشكل عام، فالترجمة “ليست مجرد نقل لمعنى الكلمة أو ما يقابلها باللغة الأخرى، ذلك أن هناك عوامل كثيرة تصنع النص الشعري، وقد يغيب عن المترجم إدراك بعضها”.
ورغم ذلك، والكلام للمترجم، تظل هناك صعوبة مختلفة في قصائد “الهايكو”، لكونها كُتبت باللغة اليابانية القديمة، كما أن الكلمات نفسها ودلالاتها ربما تغيرت أيضًا في اللغة اليابانية الحديثة. لذلك، ربما تكون بعض قصائد الهايكو “مستغلقة المعنى”، حتى في أوساط اليابانيين من غير الدارسين والمتعمقين في هذا المجال. هذا ما جعل المترجم يصرف النظر إلى حدّ ما عن ترجمة القصائد التي اختُلف في ترجمتها إلى الإنجليزية بشكل كبير، الأمر الذي يدل على أن المعنى الدقيق لبعض القصائد كان مستغلقًا، ليس على المترجمين الأجانب فحسب، بل حتى على المترجمين اليابانيين أنفسهم الذين نقلوا النصوص إلى الإنجليزية.
يضم الكتاب مجموعة من القصائد التي تشبه في إيجازها وعمقها رسائل التلغراف، ومثالها هذه القصيدة التي تقول الكثير ببضع كلمات: “بحزن تستلقي مكسورةً/ عصا التوت”. ورغم اختلاف الرؤى والهموم والقضايا، إلّا أن هذه القصائد كما يؤكد المترجم، رُسمت بريشة فنان اختبر الطبيعة وتدرب على التعايش معها في ظروفها المتعددة وتقلباتها الكثيرة، ومنها استمدّ عبارات تندرج ضمن الحِكم التي يمكن أن يهتدي بها الإنسان عبر رحلته على الأرض: “أمطار عرضية/ ليس من داعٍ للقلق/ يا براعم الأرز”، وكذلك”: “في زهور اللبلاب/ شيء ما يأخذ غفوة/ في سرير جبليٍّ”.