محمد فتحي علي / مصر
في عالمٍ تلتهمه الحروب، لا يبقى شيء على حاله. المدن تتحول إلى رماد، والذاكرة تصبح هشّة كزجاج متشقق، والقصص التي كان من المفترض أن تُروى تُدفن تحت الأنقاض. لكن وسط هذا الركام، تنبت الحكايات مثل نبات بري يتحدى الخراب. بعضها يختبئ بين السطور، وبعضها الآخر يصرخ في وجه النسيان، يرفض الموت مهما كانت ألسنة اللهب. من بين هذه الحكايات، تبرز رواية “الحرب التي أحرقت تولستوي” للكاتبة الأردنية زينب السعود، لتكون شهادة أدبية على هشاشة الإنسان أمام وحشية الحرب، وعلى قوة الكلمة رغم كل شيء.
زينب السعود ليست مجرد كاتبة عابرة في المشهد الأدبي العربي، بل صوت يحمل حساسية مدهشة تجاه التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفرق بين الحكاية والخبر. بأسلوبها السلس والعميق، تأخذ القارئ في رحلة تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة، لتغوص في عمق التجربة الإنسانية حيث الألم والخسارة ومحاولات النجاة المحفوفة بالأسئلة. إنها كاتبة تعرف كيف تُشعل شرارة الحكاية من تفاصيل عابرة: كوب شاي بارد على طاولة مهجورة، كتاب نصف محترق، نظرة وداع لم تكتمل.
في “الحرب التي أحرقت تولستوي”، رواية صدرت عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن عام 2023، لا تسرد السعود قصة حرب بحد ذاتها، بل تحكي عن الحرب التي تحترق في صدور أبطالها، عن الخسائر التي لا تظهر في نشرات الأخبار: خسارة لغة، حلم، حب كان في طريقه لأن يُزهر. الرواية تتبع خطوات يوسف، المراسل الصحفي الذي يجد نفسه في قلب النزاع بين أوكرانيا وروسيا، يحمل الكاميرا كدرع هش يحاول به توثيق ما لا يمكن توثيقه: الخوف الذي يتسلل في العيون، الارتباك في تفاصيل الوداع، والصمت الذي لا تلتقطه العدسات لكنه يحفر عميقًا في الأرواح. يوسف لا يحمل فقط كاميرا، بل يحمل هشاشة الإنسان الذي يرى أكثر مما يستطيع احتماله، ويكتب عن أوجاع تتسلل إلى ذاكرته كندوب لا تندمل.
يوسف ليس مجرد ناقل للخبر، بل هو ذاته الخبر. هو صورة مكثفة عن الصحفيين الذين يقفون على حافة الحياة، يرصدون الموت بينما يحاولون ألا يقعوا في شراكه. تتسلل الحرب إلى أعماقه، لا كحدث عابر بل كندبة تلتصق بالروح. هو دليل حي على أن الحروب لا تقتل فقط من يسقطون فيها، بل تصيب من ينجون أيضًا بجراح خفية.
إلى جانبه، هناك جمانة، زوجته التي تقف على الضفة الأخرى من الحرب، حيث القلق يأكل القلب ببطء أشد قسوة من الرصاص. جمانة ليست مجرد زوجة تنتظر خبرًا عن مصير شريكها؛ إنها مرآة تعكس كيف يمكن للحروب أن تخلق مسافة شاسعة بين قلبين، حتى لو لم تفصل بينهما سوى شاشة هاتف. هي صورة لوجع الغياب، والخوف الصامت الذي لا تعالجه الكلمات. الحروب لا تدمر المدن فقط، بل تسرق التفاصيل الصغيرة التي تصنع الحياة: رسائل قصيرة، مكالمة عابرة، ضحكة لم تكتمل.
وفي مكان آخر، يطل علينا معاذ ورشا، طالبان فلسطينيان كانا يدرسان الطب قبل أن تقتحم الحرب قاعات الدراسة وتحولها إلى ملاجئ مؤقتة. كلاهما يهرب من حرب ليجد نفسه في أخرى، كأن مصيرهم محفور على خرائط لا يعرفون عنها شيئًا. هم ليسوا أبطالًا كما في القصص البطولية، بل مجرد شباب يحاولون أن يعيشوا حياة عادية في عالم يرفض أن يكون عاديًا. معاذ ورشا لا يبحثان عن بطولة، بل عن مكان آمن، عن لحظة هدوء يمكن فيها أن يتنفسا دون خوف. هذه الشخصيات هي صدى لملايين البشر الذين لا يطلبون من الحياة أكثر من أن تُترك لهم فرصة للحياة.
الرواية تنساب بسلاسة كأنها لا تحتاج إلى جهد لتروي مأساة، ولكن خلف هذا الانسياب تختبئ براعة الكاتبة في رسم مشاهد كثيفة بالعاطفة دون الوقوع في فخ الميلودراما. هناك مشهد، على سبيل المثال، حيث تضطر إحدى الشخصيات إلى تمزيق صفحات من رواية “آنا كارنينا” لتدفئة نفسها. في هذه اللحظة، لا يحترق فقط ورق الكتاب، بل تحترق فكرة الأدب نفسها كملاذ من قسوة العالم. تولستوي، الذي كتب عن الحرب في “الحرب والسلام”، يصبح هنا ضحية أخرى لحرب لم يتخيلها أبدًا. هذا المشهد وحده يلخص فلسفة الرواية: في مواجهة البرد والموت، حتى أعظم الروايات يمكن أن تصبح مجرد وقود. وربما هنا يكمن السؤال الأكثر إيلامًا: هل الأدب رفاهية حين يكون البقاء على قيد الحياة هو المعركة الوحيدة؟
حرق كتاب ليس مجرد فعل مادي، بل هو أيضًا فعل رمزي. عندما تتحول الكلمات إلى رماد، ينهار جزء من الحضارة. لكنها تنهار أمام حاجة بدائية: النجاة. وهذا هو جوهر الرواية. ليست الحرب فقط هي ما يُحطم المدن والناس، بل أيضًا ما يُجبرك على إعادة ترتيب أولوياتك، على أن تضع الدفء فوق الفكرة، والحياة فوق الجمال. إنه موقف وجودي حيث يتقاطع الأدب مع الواقع في أكثر لحظاته قسوة.
لكن “الحرب التي أحرقت تولستوي” ليست رواية عن الاستسلام. إنها رواية عن التشبث بالحياة في أكثر لحظاتها هشاشة. عن الحب الذي ينجو رغم المسافات والخراب. عن الكرامة التي يمكن أن تتجلى في تفاصيل صغيرة، مثل قرار إنقاذ كتاب حتى لو كان مصيره الاحتراق لاحقًا. اللغة هنا تتنقل بين البساطة والعمق دون تصنع، مما يجعل القراءة تجربة مليئة بالدهشة رغم ثقل الموضوع. السعود تكتب بوعي حاد لدور الأدب في مواجهة العبث. هي لا تقدم دروسًا أخلاقية ولا تعظ القارئ عن قسوة الحرب. كل ما تفعله هو أن تضع أمامه مرآة تعكس وجهًا آخر للحرب، وجه الأشخاص العاديين الذين لا يعرفون شيئًا عن الاستراتيجيات العسكرية لكنهم يعرفون جيدًا معنى الخسارة.
وهنا تكمن عظمة الرواية، في قدرتها على جعل القارئ يشعر أن هذه الحكاية قد تكون حكاية أي شخص، في أي مكان، في أي زمن. هي ليست مجرد قصة عن حرب في أوكرانيا، بل عن الحروب التي نخوضها جميعًا، سواء كانت على حدود الدول أو في أعماق أرواحنا. كل شخص في الرواية هو انعكاس لجزء منّا: الخائف، والمحب، والنازح، والناجي، والمكسور الذي يحاول لملمة شظاياه.
في نهاية المطاف، “الحرب التي أحرقت تولستوي” ليست مجرد رواية تُغلقها بمجرد الانتهاء منها. إنها تبقى معك، تتسلل إلى أفكارك في اللحظات الصامتة، تذكرك بأن الكلمات يمكن أن تحترق، نعم، لكن حتى في احتراقها تضيء شيئًا ما في ظلام الحروب. ربما لهذا السبب نحتاج مثل هذه الروايات، ليس فقط لتخبرنا بما حدث، بل لتجعلنا نشعر بما يعنيه أن يحدث. رواية تجعلنا نطرح سؤالًا بسيطًا لكنه موجع: ماذا لو اضطررنا نحن يومًا ما لحرق كتبنا كي نبقى على قيد الحياة؟ وربما، في هذا السؤال وحده، يكمن سر الأدب كله، أن يظل قائمًا حتى في الرماد، شاهدًا على أننا حاولنا، على الأقل، أن نحكي القصة قبل أن تأكلها النيران.
نشرت في صحيفة الأمة الثقافية Al Oma Al Thaqafia