ثنائية القصيدة الناعمة والحرب المتوحشة… قراءة في نص تحتَ سماءٍ واحدة

ثنائية القصيدة الناعمة والحرب المتوحشة… قراءة في نص تحتَ سماءٍ واحدة


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    أ. د. خليل عبد سالم الرفوع/ الجامعة القاسمية

    يتحول النص النثري عبر استعارات اللغة وانزياحاتها إلى قصيدة مكتملة الرؤية عبر انثيال مجموعة من الأفكار تنداح في كل مستوى لتتجمع روافدَ نديةً في ساقيةٍ واحدة تنسكب في حوض شجرة الحياة، تلك هي نصوص الشاعر نضال برقان في عمله الشعري النثري «تحت سماء واحدة»، الذي صدر عام 2023م عن دار الآن ناشرون وموزعون، مجموعة من العناوين تتضافر لتشكل دلالةً مفتاحها: تحولات الأرض من خُضرة الجمال إلى سواد القبح، وهي تحت سماء واحدة لكنها سماءٌ منزوعة من نجومها؛ فأضحت خيوطًا من الظُّلمة أو الظلام، الأرض واحدة والسماء أيضا واحدة، لكن الإنسان بجرائره وجرائمه لم يُبْقِ فيهما أملًا بحُلُم أو فسحة من هناء.

    تحتَ سماء واحدة أو تحت سقف واحد لا فرق، كل البشر يعيشون مفرَّقين، ليسوا واحدًا بل تحوَّلَ الدفءُ المؤمل والسكينة المبتغاة إلى فتْك وقتل، إنها ثنائية الوجود منذ البدء: الحياة والموت، وكأن الشاعر يصرخ فنيًّا: لماذا تشبعت النفوس بالكراهية وارتوت بطين الكدر، وسعت بكل ما أوتيت من أدوات الفناء لتحويل زرقة الثُّريَّا بوشاحها الفضي إلى غيمة حمراء تنهمر بالدماء، وخضرة الأرض الناعمة إلى فيضان دموي يجترف منابت الأقحوان والياسمين وما تبقى من براءة طفل يغفو على جوع الغروب وكرْب الهَزيع.

    تحت سماء واحدة نص شعري يعرِّي ظلم المعتدي بأغنية شعرية، لكن هل تستطيع القصيدة أن تكفَّ بأسَ أولئك الصاعدين على نزف البؤساء إلى خرافة التاريخ المزور، تلك هي مأساة الشاعر حينما يقف على ناصية الحقيقة ليقول كلامًا مُمَوْسَقًا برائحة الشعر ليهدِّئَ من رُوع حوض النعناع في الأرض، وبستان النجوم في السماء باعتبار ما كانَا كذلك ذات زمان بهيج وصباح قُطني.

    تكثيفٌ رمزي استعاري للنصوص وعناوينها تشفُّ عن صرخات ذاتية في جَوى الشاعر المنهك وجوف الأمة الفارغ، ملخصُها رفضُ الحرب ومآلاتها من خلال رسوم الحياة المقفرة وما أودعَه إجرامُ الإنسان فيها من بقايا أشلاء محترقة أو ممزقة قد صُنِعَتْ على أعين التوحش البشري ولم تَوَارَ في بطن الترابِ كرامةً لها، في النصوص ثمة مُخَاطَبَة أنثى بأناقتها الوردية مكتملة البهاء في الذكرى والوجدان: هي الأرض البعيدة في حُلُمِ الشاعر والقصيدة التي تشكل أنوثتها:

    أعرف أنكِ في مكانٍ ما هناك

    تغنينَ للأملِ

    وتُحيكينَ ملابسَ جديدةً للحقيقةِ

    وتزرعينَ النجومَ في حوضِ النعناعْ.

    أعرفُ أنكِ كنتِ تودينَ تقليمَ أظافرَ الحرب

    قبلَ رحيلك

    كنتِ تودينَ تنظيفَ البلدِ من روائِح الدماء

    التي تُراق بمجانيَّةٍ في كل مكان

    كنت تودين حمايةَ الأطفالِ

    من سُعارِ الطائرات الحربية

    وأعرفُ أكثرَ أنكِ الآن لستِ هنا.

    تلك الأرضُ هي الحُلم الذي يريد أشياءَ كثيرة: الغناء لأمل مؤمَّل، حياكة ما يستر عورة الحقيقة وسوْءة العدالة، زراعة نجوم في خضرة النعناع بعد أن أُنزلتْ من مواقعها، تقليم أظافر المنية كيلا تنشبها في براءة الطفولة، تطهير جسد الأديم من روائح الدماء، هي الأرض إذن ممشوقةٌ بوقار القصيدة الحالمة؛ لكن لن تغير شيئًا من قبح الحياة.

    تحت سماء واحدة هو عنوان النص وعتبته الأولى، تحت السماء كل تناقضات الكون وثنائيات الوجودِ، حيث الأصوات تتصاعد من مختلف الجهات لتصبح أُوكسجينًا أو سَمومًا في رئتي الكون، تحت السماء الواحدة العاشقون الذين يطلقون عصافيرهم في عين الشمس كلَّ صباح، المتشبثون بثوب الحياة حتى آخر صرخة في عروقهم، رعاة الأغاني في مواسم الحصادين حتى أولئك الخارجون على غيوم الأمل وهم يرسلون نصالَ أسلحتهم في جراح الطفولة وأدعية المؤمنين، سماء واحدة تظلل الحياة والموت والجمال والقبح، فإذا كانتِ السماء واحدةً فلماذا تتحول البلاد إلى ثقب في القلب وشرخ في جدار الروح وهما شقيقان ولدتْهما أمٌّ كونية واحدة، تلك هي المأساة الوحشية في أخاديد نار يُسعِّرها الطارئون على الجغرافيا في كل حين لسنابل القمح والزيتون المعمَّر والعصافير التي تخبئ أعشاشها في شقوق الأرض الأم وتلك الأكف التي تزرع في معاصمها رحيق التاريخ قبل نفخ الغرباء في شهادة الزور أو زور الشهادة، تلك مأساة الشاعر ومأساة كل الحالمين بعدالة منتظرة في عيون فتية الكهف.

    من الصور الشعرية للشاعر أنه يستنشق أنفاس البلاد الشهيدة التي ابيضت سماؤها من الحزن، فينبت له جناحانِ كبيران ثم يحلق بهما في منامها كطائر مهاجر ليخبر أرباب الخراب بهديل المحبة، وقد استحالت قصيدته صراخًا في أزيز الرصاص على وحدتها، بلاده البعيدة تغني للأمل، وقد ملأت العتمة رئتيها والتهمتها الحرب في عزلتها القاتمة، الشاعر ليس محاربًا ليحرس شرفتها ويطلق جسده في مراياها:

    الآن

    بعد أن أمستِ السماءُ غيرَ السماء

    والأرضُ غير الأرض

    الآن … تمامًا

    أرى النسيمَ والياسمينة

    أرى الغيمة والعصفور

    أرى الورقة والقلم

    وأقول: لو أنك انتبهت ولم تجعلي الحرب تهرس قلبك

    لو أنني أخلفتُ موعدي مع الموت ولم أمتْ حينها

    ربما كنا رقصنا الآن سوية.

    البلاد شجرة ميلاد عتيقة، وغابة أغانٍ من الشعر، وأحصنة شهوة تضرب بأرجلهنَّ الأرض، سجادة صلاة في محراب الحرية، وينابيع تتفجر في صدر العاشق الذي شطر قلبه الحَجرِي شطرين في عتمه الحضور، ولو مرت به لصارَ غيمةً في جوقة النجوم وفراشةً في بساتين القصيدة، لكنها تتألم في جحيم الغياب، حتى ضجتْ عيونُ السماء بالصراخ.

    البلاد سيدةُ الدعوات والصلوات حيث كانت الأرض تغسل خطاياها على ضفة نهر دعائها، والسماء تختلس السمع لغنائها فتتنفس الصعداء، وفي محراب محبة غيابها ينشد الشاعر ابتهاله أمام عبثية الحرب في دفتر العائلة حيث حِممُهَا تملأُ السماء وتهدمها على أطفال بعمر الضحكة ينامون في ملكوت الدعاء، في طريقهم إلى مواعيد الياسمين وهم في كامل أغنياتهم يزينون عرائسهم بالأدعية والتمائم، والعدالة بعيدة تصلي من أجلهم:

    يا أمي … وأم الغيابِ

    بينما تنعمينَ بالطمأنينةِ

    في عينِ الله

    قصيدتي تكلَّست

    دعائي جَفَّ قبل أن يتشكلَ

    وقلبي استحالَ حجرًا ظامئًا

    ومتعبًا

    ووحيدًا تمامًا.. في غيابك.

    وبعد،

    فهذه قراءة لعمل فني مغرق في صبابة القصيدة وحرقة الأرض وبراءة الطفولة، وفي تفاصيل النصوص مرارة القلب تسري في كل مقطع، إنها بكائية الشعر على موت الإنسانية وتحول الحياة إلى جحيم قبل أوانه، الشاعر بالصورة يرسم عالمًا فاقدًا لكل أسباب العدالة، وأمام التوحش يغني الشاعر وحدَه لعل غيمة تمطر غيثًا أو نصرًا، نصوص توغل في صوفية الذات وألم الآخر لا يحدها وزن عروضي أو قافية مغلقة، الشاعر يكتب الكلمة صورة والصورة معنى يتشابك مع القارئ ليفضح كل الناظرين في أخاديد احتراق الأبرياء. نعم يتنفس الشاعر شعرًا ليرسم بالاستعارة واقع البؤساء والمعذبين لعل السماء تكفُّ عن قذف حممها في عيون طفولتهم الحزينة، نصوص تكشف رؤية كاتبها: ثنائية القصيدة الناعمة والحرب المتوحشة عندما يلتقيان في فلسطين الأرض والتاريخ والذاكرة والجرح ووهج الحب الأبدي.

    (أ. د. خليل عبد سالم الرفوع، صحيفة الدستور، 25/7/2025)