“جسر بضفة وحيدة”.. أن تُسجَنُ في الماضي

“جسر بضفة وحيدة”.. أن تُسجَنُ في الماضي


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    رضوى الأسود
    كاتبة مصرية

    “تبدأ غربتك الداخلية بعد أن تدرك بشكل واضح أن لا شيء في الخارج يمكنه منحك السكينة”. كانت هذه العبارة المفتاحية مدخلًا لرواية “جسر بضفة وحيدة” للكاتبة والناقدة الأردنية “هيا صالح”، والصادرة العام الفائت عن دار “الآن ناشرون وموزعون”، والتي تصحبنا معها إلى عالم محوره الأساسي: الموت.
    بطلة الرواية “سامية”، وهي الساردة العليمة التي تحكي حكيًا أنثويًّا ناعمًا عن مشاعر الحب والفقد، عن اختبار الموت، والوحدة، والاغتراب الداخلي. تعيش في ماضي لا تغادره ولا يبرحها، إذ أن الحاضر عجز عن إزاحته، بفشله في تقديم نوع من التعويض عن الحب الضائع، ورحيل الأبوين، فكان اجترار الماضي يشبه حيلة ما لهدهدة القلق الداخلي، والأزمة الوجودية، لكن في حقيقة الحال، لم يكن ذلك الاستدعاء سوى تدمير للحاضر، وربما المستقبل.
    الرواية المكونة من أحد عشر فصلًا نرى فيها “سامية” الزوجة والأم لطفلين، والتي تحترف التصوير الفوتوغرافي، تعاني من تعاسة في حياتها الزوجية، على الرغم من حنان زوجها، ومعاملته الطيبة لها؛ فهناك ما هو مفقود بينهما.
    تبدأ الأحداث برسالة من مجهول تصل إلى “سامية”، مكتوب فيها عبارة غاية في الرومانسية، يعترف فيها حبيب لحبيبته بأنه لم ينسها رغم مرور الزمن، وموضح تحتها أنها اقتباس من رواية “جسر بضفة وحيدة”، ومن هنا تبدأ البطلة رحلة مترعة بالغموض والإثارة والبهجة والحزن في آن، فتقابل في مكان غامض شابًا يعمل نادلًا في مقهى هي زبونته الوحيدة، ويدور بينهما حوارًا فلسفيًا عن الموت، ثم يظهر من بعده حبيبها التي تكتشف أنها بالفعل لم تحب سواه (عمَّار)، والذي تستعيد معه قصتهما، ويحاول أن يأخذها معه باتجاه جسر يعبر نهرًا، في مكان أقرب للخيال منه إلى الواقع. وفي غمار كل ذلك تسوء حالتها، فتهمل أطفالها، وتنسى ميعاد افتتاح معرض التصوير خاصتها، وتتوتر العلاقة بينها وبين زوجها. لنكتشف في النهاية أن لقاءها بالنادل وبـ”عمّار” محض خيال، وأن المقهى والنهر وكذلك الجسر ليس لهم أية وجود، وأنها تماهت بشكل لا يُصَدَق مع الرواية التي تقرأها والتي تحمل عنوان “جسر بضفة وحيدة”، والتي كانت قد حصلت عليها من مكتبة والد حبيبها القديم واحتفظت بها، وأن ما يحدث كله لا يتحقق سوى في مخيلتها فقط، ولا ينتمي للواقع بصلة! أي أننا أمام رواية داخل الرواية، يتراوح فيها الزمن السردي بين مضارع؛ وذلك حين تتحدث “سامية” عن واقعها المعاش وحياتها الحالية، وبين ماضي؛ حين تستدعي مشاهدها من الذاكرة.
    تستدعي كل تلك الأحداث سردًا لماضي يتغوَّل في عمق الزمن بعشرين عامًا، فنعرف أن “سامية”، الابنة الوحيدة لوالديها، تنتمي لعائلة فلسطينية، هُجِّرت قسريًّا من بعد النكبة وذهبت إلى العراق، وهناك، وهي على عتبات المراهقة، ترتبط روحيًّا وعاطفيًا بالصبي العراقيّ “عماَّر” في قصة حب عذبة، لكن بعد اندلاع حرب الخليج الثانية، تفر عائلتها من العراق إلى الأردن دون أن تتمكن “سامية” من توديع حبيبها أو إخباره بمكانها، ويظهر لنا كيف تألمت جرَّاء ذلك الإنشطار عن توأم الروح ومصدر السعادة، وهناك، حيث استقرت العائلة في الأردن، تبدأ “سامية” بتجاوز محنتها بالالتفاف حول مشاعرها وذاتها، بادعاء مشاعر لا تحسها، وإنكار أفعال اقترفتها، فكانت تتسبب -دون وعي منها- في إيلام الآخرين، لكنها ستكتشف مع الوقت أنها هي من تألمت عنيفًا.
    في وقت من الأوقات بدا لـ”سامية” أنها تعايشت مع حاضرها وحياتها الجديدة في الأردن، فعاشت قصة حب كاذبة مع “سالم”، وبعدما فقدت والديها ثم صديقتها الأقرب ماجدة، تخيلت أنها فقدت التأثر وأصبحت كائن لا مبالي، وأكملت حياتها بالادعاء، عاقدة لصُلحِ مع الحياة، لكننا مع الوقت سنكتشف أنها في الواقع لم تتصالح معها، ولم تكن فاقدة للمشاعر، وأن سلسلة الفقد والوجع وما خلَّفته الحرب وما استحدثه النزوح من بلد لآخر، جعلها تموت ببطء، قطعة قطعة، بفقدانها الإحساس بمتعة الحياة، وتمني الموت (بشكل لا واعي). فحياتها الحقيقية انتهت بالهروب من العراق، حين تركت روحها وقلبها وذكرياتها معلقة، ورحلت فقط بالجسد.
    المصورة التي احترفت تأبيد لحظات مميزة وفارقة في الحياة داخل صورة، لم تكن تعي أنها قد التقطت أهم صورة في مشوار حياتها، وهي صورة بانورامية لماضي كامل ذهب -بغير رجعة- بشخوصه وأحداثه، لكنها اكتشفت أنها علقت للأبد بداخلها، وكأنها سقطت في خيوط عنكبوتية سميكة، لم تتمكن أبدًا من الفكاك منها.
    لوحات الهذيان التي تبدأ حين تنسل البطلة من واقعها باتجاه خيال قوامه ماضي تستدعيه بكل ذرة في روحها، كُتِبَت بسلاسة ونعومة فائقتين، وقد صورتها الروائية بشكل أقرب إلى لوحات تشكيلية تحوي طبيعة صاخبة الجمال والديناميكية والتأثير، حتى أنك كقارىء ستظل حتى قرب النهاية في حالة من الارتباك والتساؤل عما إذا كان ما يحدث واقع أم خيال، وإذا ما كانت الرواية تنتمي لفئة الواقعية السحرية، وقد كانت قاب قوسين أو أدني من هذا التصنيف، لولا أننا نصطدم بحقيقة أن كل ما كان يحدث للبطلة هو محض هذيان.
    إنتهاء قصة الحب مع بداية حرب الخليج الثانية، وسقوط البطلة النفسيّ بعد سقوط بغداد، يلقي بظلال الخيبات الشخصية على الشأن العام والأحداث الكبرى، فالوطن حين يصبح منفى، تُنفى معه أرواحنا، وحين يُمنى بالخسائر، تُترَع أرواحنا بالإخفاقات. وفي سياق الخيبات الكبرى التي تتناسل منها خيبات مجتمعية وشخصية، يقول الزوج (صلاح): “إذا لم يتم تجاوز الماضي، سيُسجَن الفرد بداخله”، وتقول الزوجة (سامية): “لا أحد يمكنه أن يهرب من أخطاء الماضي، إنها تلاحقه ككلب مسعور وتنهشه بلا رحمة”. هل كانت الروائية تحيل إلى تمسكنا وعيشنا في ماضي من موروثات وعادات بالية، تدمر الحاضر ولا تسمح بأي مستقبل؟! أحد التأويلات.
    الجسور في الرواية تحمل معاني متعددة، فجسر الموصل العتيق والذي تعرض للتدمير عام 2016، يمثل في حقيقته التاريخ، والسلام، والرخاء، والجسر الذي يتحدث عنه “عمَّار” والذي يقول أنه يوصله بأبيه، هو المنطقة الوسطى بين الحقيقة والخيال، والاثنان في مستوى أعمق يمثلان معنى الحنين.
    جسر بضفة وحيدة، ليس فقط عنوان الرواية التي اعتُقِلت البطلة في شباكها حتى باتت جزءًا منها، ولكنه الجسر الذي إن نجحنا في تصديق أنه من الممكن أن يكون حقيقة، وأن وجوده يعقد صلة بيننا وبين من قضوا، فلن ننجح إن نحن وقفنا على ضفة منه في رؤية الأخرى، إنها غارقة في اللا نهائية، في ما لا نعلمه عن تلك الحياة الأخرى وذلك العالم المجهول.
    عالم الروائية يحتفي بالثنائيات كالحياة والموت، الجبر والاختيار، الحقيقة والوهم، الخيال والواقع، من خلال حوارات فلسفية عميقة المعنى، قوية الدلالة، تجعل عقلك يمور في كل اتجاه يطرح الأسئلة ويبحث حثيثًا عن إجابات لها، فتبدأ بالشك تجاه ما نطلق عليه “حقيقة” لأنها ببساطة هي كل ما نريد تصديقه، وكذلك تبدأ في الشك في معنى “الاختيار”، الذي تحرص البطلة على تكراره وتأكيده كلما ذكرت زوجها، وكيف أنها أُجبرت على كل شيء عداه، فهو وحده كان اختيارها، لكن حينما نرى أنه كان فرصتها الوحيدة للنجاة من واقع مؤلم ووحدة قاتلة وعذاب نفسي، هل سيظل “اختيارًا” أم أنه “جبر” يرتدي عباءة “الحرية”؟ وهل بالفعل ينقطع اتصالنا بالأشخاص بمجرد موتهم، وهل يمكن أن نستمر بتصديق ذلك ونحن نستلم رسائلهم الموجهة إلينا طوال الوقت عن طريق الأحلام مثلًا، أو نشعر بهم أحيانًا وكأننا نلمسهم يقينًا؟! وانطلاقًا من هذه النقطة تحديدًا، نجد شخصية “غدير” التي تؤمن بالماورائيَّات وعلوم الطاقة، والتي تقول لـ”سامية”: “عليك الإيمان بالرؤية لتري”، وتنصحها “بالكف عن الإيمان بما هو ماديّ فقط”، وبأن “الحياة ليست مشهدًا واحدًا يُختَزَل بصورة واقعية وحقيقية لا لبس فيها”. هنا احتفاء بالروح، وإيلاء اهتمام بها، فالجسد يواريه التراب، أما الروح فباقية، ومتواصلة مع عالم أصبَحَت لا تنتمي إليه.
    حين يفشل الإنسان في التعايش مع الواقع والتعامل مع معطياته، فلن تنتظره الحياة، ستلفظه كي تستمر في دورانها، كونه يشكل “بتوقفه” عائقًا أمام عجلتها التي لا ترحم أحدًا، وقد يكون هذا ما سيحدث (أو حدث) مع البطلة التي طالما حذرتها “سمية” سكرتيرة حماها من أنها سوف تدمر حياتها إن ظلت على هذا الحال، وقد بَدَت في المشهد الأخير وكأنها ماتت بالفعل، وذلك حين انفصلت عن واقعها تمامًا، وخذلها صوت يريد الهتاف، وقابلت كل من رحلوا وأولهم حبيبها، فربما قررت الانتحار لأنها ودَّت ما تمناه النادل حين قال لها: “أريد أن أرى الموت بعينيّ، أن ألمسه وأتعرف عليه، أن ألكم وجهه لأعبر له عن غضبي، أو أطلق الرصاص على رأسه وجسده وأراقب ذلك الهلام الأخضر ينز من أطرافه، أو ربما سيكون اللقاء على العكس من ذلك، كأن أتصالح معه وأتقبله، نتعانق ونمضي معًا”، لكن يظل هناك خيار آخر هو ما منحته لنا النهاية المفتوحة؛ وهو أن تكون مستغرقة في حالة من الخيال، وقد تستفيق بعدها، وتستعيد حاضرها (وليس ماضيها)، وتتعايش مع الأمر الواقع، وحقيقة أنها زوجة وأم وفنانة ناجحة تستحق الحياة، وليس الموت.