رواية “صخرة نيرموندا” للروائي بكر السباتين

رواية “صخرة نيرموندا” للروائي بكر السباتين


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    بقلم مهدي نصير

    “صخرة نيرموندا الأسطورية في مواجهة طائر الوقواق”  
    عندما يكون الصراع مبنياً على سردياتٍ تحاول كلٌّ منها أن تثبت حضورها الأقوى وامتزاجها الأعمق مع الطبيعة من بشرٍ وشجرٍ وحجرٍ وحكايا فإن النصرَ دائماً سيكون للأنقى والأعمق والأصدق , ولأن الطبيعة لا تخضع للزيف والتزييف بل تخضع لمنطقها العميق في الوقوف مع مكوناتها التي شكَّلتها وليس مع سارقيها الطارئين الباحثين عن أرضٍ جاهزةٍ وأعشاشٍ جاهزة , لذلك ستنتصر صخرة نيرموندا سيدةُ يافا الأسطورية على طائر الوقواق البشع القادم في سفن الهجرات الإستيطانية ليحتل العشَّ الفلسطيني ويطرد منه أبناءَه وفراخه ومستقبله .
    ربما في الفقرة السابقة تكمن المقولة التأسيسية العميقة لرواية بكر السباتين صخرة نيرموندا , في هذه الرواية التي يحتلُّ المكان فيها البطولة المطلقة , حيث تبرز يافا بشوارعها وبحرها وبياراتها ومسارحها ومساجدها وكنائسها ودور السينما التي فيها وبيوت الحجر والشوارع والعطفات والأسواق والناس والمهن والسيارات والباصات وسكة الحديد .. الخ , إنه العشُّ الفلسطيني الذي يعمل على احتلاله داوود وطيوره الوقواقية البشعة ليدمِّر كلَّ هذه الحياة الفلسطينية المتجذرة في هذه الأرض الكنعانية برموزها ومائها وخرباتها وآبارها القديمة وبياراتها المطعَّمة بالنقوش والحياة الكنعانية الممتدة منذ آلاف السنين , والتي يعمل على احتلالها وتخريبها طائر الوقواق البشع القادم مدججاً بالغرب وسلاحه وماله ليوطِّن سرديته الوقواقية البشعة .
    في هذه الرواية التي تستند روايتها على الراوي العليم الذي يطوف في ارجاء يافا راصداً الخراب الذي يهيء له الصهاينة ومنظماتهم الإرهابية ” أرغون وشتيرن ” بدعمٍ مطلق من الاحتلال البريطاني الجاثم على أرض فلسطين منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى الفترة التي ترصدها الرواية – وهي عقد الأربعينيات من القرن الماضي – والحرب الشرسة التي يقودها الصهاينة لتحقيق جشعهم وجشع الغرب الاستعماري في توطين هذا الوقواق القذر في العشِّ الفلسطيني .
    في هذا المقطع من حلم سعد الخبايا الشخصية المحورية الفلسطينية في هذه الرواية والقادمة من عمق التكوين الكنعاني وشخصياته البطولية نقرأ هذه النبوءة وهذا الخوف :
    هناك وعيٌ عميق شعوريٌّ ولا شعوريٌّ بهمجية هذه الهجمة الصهيونية التي تريد أن تقتلع كل ما هو عربيٍّ وكنعانيٍّ ليستوطن هذا الوقواق القادم من اقاصي الأرض بحلمه العفن ليسرق السمن والعسل والحكايةَ والأسطورةَ والأعشاش .
    في حكاية العرَّافة التي كانت حجارة حكاياتها مأخوذةً من بئرٍ كنعانيٍّ قديمٍ ومحاولة داوود استبدال حجارتها بحجارة سرديته اليهوهية التائهة إحالةٌ من الرواية لأسطورية الصراع وبحثِ الغزاة عن اقتلاع حتى حجارة العرَّافات ورواياتهنَّ من نسقها الكنعاني إلى نسقٍ بديلٍ زائف , وفي هذا الإطار نقرأ حلم داوود الذي يقوم بطقسٍ دمويٍّ بقطع ذكر طفلٍ يهوديٍّ وتفتيته ليصبح كالبذار ليبذره في أرض كنعان لينبت كعضوٍ تناسليٍّ في هذه الأرض التي كان أحدَ رموز بعلها المقدَّس هو الثور ذو القدرة الجنسية الخارقة , وهذه محاولةٌ سرديةٌ صهيونيةٌ لطمس هذا الرمز للخصب الكنعاني بحيلةٍ طقسيةٍ تدرك معنى الأسطورة العميق ومعنى انبعاثها من جديد . 
    أيضاً في الحوار العميق الذي يدور بين المحامية منى وسعد الخبايا في مزرعة النحل موقفٌ من البقاء في حيز المقاومة السردية الحالمة التي شكَّلت شخصية سعد الخبايا القديمة واستدعائه لها لمواجهة الغزاة , بل هناك دعوةٌ لتكوين شخصيةٍ تنبثق من هذه السردية حيَّةً نابضةً تقاوم الغزاة بأدواتهم وتستلهم الأسطورة التي لا تعيش بدون تمثلها وتجسدها بأبطالٍ حقيقيين من لحمٍ ودمٍ وحلم .
    في هذه الرواية رصدٌ ليافا العربية قبل وأثناء احتلالها من الصهاينة عام 1947 ورصد للهجرات الصهيونية والتواطؤ الغربي والعربي مع هذه الهجرات من خلال التواطؤ وتسليم سفينة الهجرة اليهودية – هرتزل – التي خطفها المقاومون الفلسطينيون في عمليةٍ بطوليةٍ انتهت بعودتها إلى عكا مع مهاجريها القادمين من اوروبا الشرقية ليستوطنوا أرض فلسطين ويعيثوا بها فسادا , كذلك رصدت هذه الرواية المقاومة العربية الفلسطينية عبر شخصياتٍ وطنية ترمز لاستمرار المقاومة وأبديتها حتى تحرير نيرموندا من الغاصبين , كانت شخصيات الاستاذ كنعان والباشا بطرس وأبو عزمي والدكتور عزمي والمهندسة زكية والمحامية منى وماهر والخطَّاف كلها كانت شخصياتٍ واقعيةً تمثِّل أبناء يافا ومقاومتهم ورفضهم الاستسلام , أما شخصية سعد الخبايا وبلقيس وداوود وطيوره البشعة فكانت شخصياتٍ واقعيةً رمزيةً تمثل استمرار الصراع بين الروح العربية الفلسطينية العميقة الجذور مع المشروع الصهيوني الذي سيندحر ولو بعد حين .
    عندما يكون الصراع وجودياً مع الأعداء فلا بدَّ من استنفار كلِّ مكوِّنات الأمة والشعب ولا بدَّ من تجذير الهوية وتجذير الأسطورة وتجذير المكان وارتباطه العميق في الأسطورة التي لا تموت ولكنها تتجدَّد لتنبعث حاملةً كلَّ رموزها وطاردةً كلَّ الغزاةِ الطارئين والعابرين , وهذا ما عملت رواية صخرة نيرموندا على تجذيره في هذه السردية الواقعية الرمزية المقاوِمة .