في أكثر من 800 صفحة وفي تحقيق لأكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة بيت شعري (3500)، تصدر دار الآن ناشرون بعمان بالاردن أول موسوعة لشعر الخيمياء من تحقيق الدُّكتور الهواري غزالي. وتسعى هذه الموسوعة الأدبية إلى نفض الغبار عن أهمِّ جزءٍ من التُّراث العربي الذي طاله النِّسيان وهو الخيمياء. وهو جزءٌ ستكتمل به حتمًا المكتبة العربيَّة، نظرًا للنُّقص الذي تبديه إزاء هذا العلم المهمَل.
وتضمُّ هذه الموسوعة في جزئها الأوَّل ديوان شذور الذَّهب لابن أرفع رأس الجيَّاني الاندلسيِّ (المتوفَّى سنة 593 هـ – 1197 م)، وفي جزئها الثَّاني ديوان قراضة العسجد لمحيي الدِّين بن عربي (المتوفَّى سنة 638 هـ/1240 م) وديوان سلاسل النُّضار لصلاح الدِّين الكوراني (المتوفَّى سنة 1049هـ-1639م) في جزئها الثَّالث.
فأمَّا بخصوص ابن أرفع رأس الجيَّاني المسمَّى بالرَّئيس، فهو يعدُّ من أهم الشُّعراء الخيميائيِّين. وهو الشَّاعر الذي قيل فيه : “ولو لم يكن للأندلسيين غير كتاب “شذور الذهب” لكفاهم دليلاً على البلاغة (…) فلم يَنْظِم أَحَدٌ في الكيمياء مثل نظمه بلاغةَ معاني، وفصاحةَ ألفاظ، وعذوبةَ تراكيب، حتى قيل فيه: إن لم يُعَلِّمْك صنعة الذَّهب علَّمك صنعة الأدب.
ولقد قام، الدَّكتور الهواري غزالي، إضافةً إلى تحقيق قراضة العسجد في الجزء الثَّاني، بضمِّ قصيدة الشَّيخ الأكبر المسمَّاة كشفُ الأستار لخواصِّ الأسرار، ورسالة أخرى بعنوان شرح قصيدة كشف الأستار لخواصِّ الأسرار لعبد الرَّحمن السُّويدي، ورسالة كتابُ ما أتى به الوارد. وتعدُّ هذه الرِّسالة من بين أهمِّ الفصول والرَّسائل التي ألَّفها – لغرض تبيان طريقة السُّلوك- بناءً على معرفته العميقة بالكيمياء القديمة، وذلك إلى جانب كتابه المشهور الفتوحات المكيَّة.
ولقد تناول بالبحث فيها موضوعين أساسيَّين: أوَّلهما التَّحقق من نسبة ديوان قراضة العسجد لمحيي الدين بن عربي، وذلك نظرا لافتقاده المعلومات التي من شأنها إثبات نسبة الدِّيوان إلى صاحبه، وثانيهما؛ البحث في معرض ذلك في موضوع الكيمياء الرُّوحيَّة التي أثارها ابن عربي في كتابه الفتوحات المكيَّة في فصل بعنوان : كيمياء السَّعادة وفي رسالته : كتاب ما أتى به الوارد. والهدف من هذا البحث هو إيجاد نقاط تقاطع بين ديوان قراضة العسجد ومؤلَّفات ابن عربي النَّثرية خصوصا.
أمَّا بخصوص الجزء الثَّالث الذي يحمل عنوان سلاسل النَّضار المنظوم بداية القرن الحادي عشر بما يوافق بداية القرن السَّابع عشر ميلادي بحلب. فيعدُّ صاحبه من أكثر شعراء حلب نظمًا وأوسعهم نظرًا في العلوم. وهو قاضٍ من الكتَّاب المترسِّلين الذين عاشوا بالفترة العثمانيَّة. ويعدُّ هذا الدِّيوان في مرحلته المتأخِّرة زمنيًّا مقارنة بالدَّواوين الأولى دعمًا لفرضيَّة وجود غرض الصَّنعويَّات الذي جعل منه الدُّكتور الهواري غزالي تساؤلًا مستمرًّا في أبحاثه وعمل من خلاله على إيجادٍ مكانة له بين مختلف الأغراض الشِّعريَّة الأخرى.
وتعمل هذه الموسوعة التي تضمُّ شعراء نظموا في علم الخيمياء على تأسيس غرضٍ شعريٍّ جديد، يُضافُ إلى قائمة الأغراض الشِّعريَّة التي عرفها العرب، كالغزليَّات، والطَّرديَّات، والمرثيَّات وغيرها. وهو غرضٌ اصطلح عليه الدُّكتور الهواري غزالي بالصَّنعويَّات نسبة إلى مصطلح الصَّنعة الذي يعود إليه الخيميائيُّون للإشارة إلى مهنة الخيميائي الذي يسعى إلى صناعة الذَّهب.
وجاء في الكتاب أنَّ هذا الغرض الأدبي يسمح بمساءلة واقع الشِّعرية إذا ما تعلَّق بنشاط الكيميائي الأديب. كما أنها تسمح أيضاً بتحديد العلاقة بين الأدب العربي والعلوم القائمة على التَّجربة، في إشارة إلى “الشَّعر والكيمياء” من ناحية، وتحديد الأشكال الشعرية التي أنتجتها الفكرة الكيميائية مقارنة بالأنواع الكلاسيكية (قصيد، أرجوزة، تخميس…) من ناحية أخرى.
ومن الغريب، يقول الدُّكتور الهواري غزالي، أن يعتبر النُّقاد شعر الخيمياء جزءًا من الشِّعر التَّعليمي، بحيث يعبِّر الشَّاعر عن تجاربه الكيميائية بنظمه للشِّعر لغايةٍ تعليميَّة. ولكنَّه بالمقارنة مع الشِّعر التعليمي في النَّحو مثلاً، فإنَّ الشِّعر الكيميائي يبدو غامضاً، ولغير المطَّلعين يبدو مستغلقًا تماماً. لذا، تُعتبر دراسته من عدَّة جوانب، صعبة المنال. فرغبَة الكيميائيين في عدم إفشاء أسرارهم، وخاصة فيما يتعلَّق بطبيعة حجر الفلاسفة وسرِّه، دفعتهم إلى إنتاج مؤلَّفات غامضة ومغلقة بشكل محكم؛ وقد ساهم هذا بلا شك، حتى اليوم، في غياب دراسة نقدية حقيقية لهذا الإرث الثَّقافي العربي العظيم.
ولقد ألهمت الخيمياء جمهورًا من الأدباء والمفكرين، مثل ذو النُّون المصري (توفي عام 248/862)، ابن أميّل التميمي (توفي عام 348/960)، الطُّغرائي (توفي عام 513/1121) أو حتى ابن رشد الشَّهير (توفي عام 594/1198)، لاسيما بعد الانتقال من مرحلة التَّجريب البسيط خلال المرحلة الأولى من التَّرجمات عن اليونانيَّة إلى التَّنظير ثمَّ التَّعبير عن ذلك أدبيًّا.
ويعرّف ابن خلدون الخيمياء بأنَّها علم ينظر في المادة التي يتم بها تكوين الذَّهب والفضَّة بالصِّناعة. وتسمَّى هذه الصِّناعة بعلم الكيمياء أو الخيمياء أو علم الصَّنعة. وتعتمد الكيمياء على خليط من الممارسات القديمة (ذات الجذور البابلية، الفرعونية والإغريقية) وعلى معارف كثيرة من بينها الفيزياء، والفلك، وعلم الرموز، وعلم المعادن والاحجار، والطّب وحتَّى السِّحر. وينسب إلى خالد بن يزيد بن معاوية (توفي عام 85/704) أوَّل تأليف في هذ النَّوع من الشِّعر التَّعليمي المعروف بديوانه “فردوس الحكمة” والذي يحتوي على أكثر من 2900 بيت. ويُعبِّرُ هذا الدِّيوان عن انتقال العلوم اليونانيَّة لأوَّل مرَّة إلى الثَّقافة العربيَّة عن طريق الشِّعر وليس عن طريق النَّثر. وتتابع المسلمون على هذا كجابر بن حيان وأبي بكر الرَّازي حيث اجتمع التَّجريب العلمي بالتَّحليل الفلسفي مبتعدين عمَّا ورثوه من تصور ميتافيزيقي هو أقرب إلى الخرافة منه إلى الواقع.
نذكر أن الدُّكتور الهواري غزالي شاعر ومترجم وأستاذ محاضر في قسم الدراسات العربية بجامعة باريس، وباحث بمركز الدراسات الأدبية العالمية في العاصمة الفرنسية. أصدر في الشعر دواوين كثيرة من بينها: “أناشيد النبوءات المتوحشة”، و”قلب لا يحسن التصديق”، و”للبحر صوت آخر على جسر ريالتو”، و”كتاب الغبطة المتصلة”، و”نزيلا قاسيون” الصادر بداية هذا العام عن دار “الآن ناشرون” في عمّان. كما ترجم إلى العربية ديوان “هذا الحظ وهذه النار” للشاعر الفرنسي جون بول ميشال، و”كتاب الحماسة” عن هيردريلين. كما صدر له عام 2019 كتاب “دونيز ماسون” عن المستشرقة الفرنسية دونيز ماسون، التي ترجمت القرآن الكريم إلى الفرنسية عام 1976.وإلى جانب كونه مهتما بالدراسات النقدية الشعرية، هو باحث يشتغل على تحقيق الدواوين الشعرية والمخطوطات العربية الإسلامية القديمة، ومن بين الدواوين التي حققها، ديوان “شذور الذهب” لابن أرفع رأس الجيَّاني، وديوان “قراضة العسجد” للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، وسيصدر له قريبا ديوان محقق بعنوان “سلاسل النضار” لصلاح الدين الكوراني.
class="inline-block portfolio-desc">portfolio
text