“الدستور” الأردنية
حاوره: نضال برقان
يذهب الدكتور غسان إسماعيل عبد الخالق إلى وجود «سارد مثقف»، وآخر «تلقائي»، والفرق بين الاثنين أن الأول لا يكتفي بالخبرات والتجارب التي اكتسبها فضلا عن الموهبة التي يتمتع بها، بل هو يصر على أن يضيف إلى ذلك تثقيف نفسه أدبيا وفنيا وفكريا وسياسيا كما يصر على توظيف بعض ثقافته وإبرازها عبر أعماله الأدبية، فيما أن الثاني يظل مطمئنا لموهبته ومنجم سيرته الذاتية.
د. عبد الخالق كان صدر له حديثا كتاب «الراوي مفكّرا/ دراسات تطبيقية في السرد العربي المثقّف»، عن (الآن ناشرون وموزعون)، في عمان، وقد أفرده لثلّة من التجارب السردية؛ القديمة والحديثة والمعاصرة، بعد أن مهد لها بمرافعة مسهبة عن الواقعية والأدب الواقعي، انطلاقا من قناعته بأن الرواية كانت وما زالت وستبقى واقعية، حتى لو تدثّرت بمسميّات أخرى.
ولإلقاء المزيد من الضوء حول رؤية د. عبد الخالق المعرفية في كتابه الجديد كان لنا معه الحوار الآتي:
* بين «الراوي مفكّرا..» و»السّرد المثقّف»، ثمّة غير بعد معرفي ينطوي عليه عنوان كتابكم الجديد، فكيف ترى العلاقة بين التفكير والتثقيف من جانب والسرد والرّوي من جانب آخر؟
– أتبنى بهذا الخصوص رؤية شخصية مفادها أن هناك ساردا مثقفا وساردا تلقائيا. والفرق بين الاثنين أن الأول لا يكتفي بالخبرات والتجارب التي اكتسبها فضلا عن الموهبة التي يتمتع بها، بل هو يصر على أن يضيف إلى ذلك تثقيف نفسه أدبيا وفنيا وفكريا وسياسيا كما يصر على توظيف بعض ثقافته وإبرازها عبر أعماله الأدبية، فيما أن الثاني يظل مطمئنا لموهبته ومنجم سيرته الذاتية. ورغم أنني لا أقلّل من أهمية الخبرات والتجارب الشخصية فضلا عن الموهبة الذاتية، إلا أنني مضطر للتصريح بأن عددا لا يستهان به من الكتّاب (روائيين وشعراء وقصّاصين) ليسوا مثقفين ولم يتجاوز عدد الكتب التي طالعوها في السنوات الأخيرة أصابع اليد الواحدة؛ فجلّ اعتمادهم على مطالعاتهم الأولى وما تلتقطه آذانهم هنا وهناك أو ما تيسّر من مقالات قصيرة في الصحف والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي! هذه ليست مبالغة مني بل هي ظاهرة راحت تتفشّى منذ ثلاثين عاما، وسبق لي أن رصدتها وكتبت عنها أكثر من مرة. ولعلك أكثر قدرة مني على تقدير حجمها بحكم عملك؛ أي لابد أنك لمست ذلك في خضم حواراتك مع بعض الكتّاب فلاحظت أنهم قاصرون عن تقديم إجابات معرفية تتعلق بصلب كتابتهم، كأن تسأل شاعرا يكتب قصيدة النثر عن الفرق بين الرؤية الغنائية في القصيدة التقليدية والرؤية التفكيكية في القصيدة النثرية… ثم لا يحير جوابا يا رعاك الله!
* «الرواية كانت وما زالت وستبقى واقعية، حتى لو تدثّرت بمسميّات أخرى»، هذه واحدة من مقولاتكم في الكتاب، وهي مقولة حادّة وقطعية، فماذا عن الاتجاهات الأخرى، على كثرتها، وكفاءة بعضها، في الرواية؟
– كما أن مراكز العالم قد ثابت إلى رشدها على صعيد الأزياء والفنون وعادت أدراجها إلى الكلاسيكية، فإنها قد ثابت إلى رشدها أيضا على صعيد الكتابة الروائية، إلى درجة أن بعض الروائيين العالميين _ مثل ميلان كونديرا _ يسردون وكأنهم قد اكتشفوا الواقعية للمرة الأولى. ما أريد قوله يا صديقي العزيز بصراحة ودون لف أو دوران، إن الغرب في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات قد اجتاز حقبة من التمرّد الصاخب والتجريب الغاضب على كل الصعد، ولأسباب تتعلق بانسداد آفاق الحداثة الغربية. وما جرى عندنا نحن العرب الذين لم نزل نتخبّط في ظلمات ما قبل الحداثة، أننا قلّدنا هذا التمرّد الصاخب والتجريب الغاضب بدءا بالغثيان الوجودي وصولا إلى التفكيك ما بعد الحداثي، وهاهي النتيجة كما ترى : ما زال نجيب محفوظ وحنا مينة وعبدالرحمن منيف يتربّعون على عرش السرد الروائي، لأنهم _ ببساطة _ روائيون حقيقيون وليسوا مزيفين… ليس لديهم فيوضات لغوية شعرية تمتد صفحات وصفحات، ولا يقفون على أيديهم كي يجتذبوا انتباه القارىء؛ إنهم يذهبون إلى ما يريدون مباشرة، أي أنهم يشرعون في السرد، والرواية يا صديقي العزيز شرطها الرئيس أن تشرع بسرد حكايتك دون إبطاء أو مراوغة. في الشعر يمكنك أن تراوغ، في المسرح والسينما يمكنك أن تفعل ذلك أيضا، لكنك في الرواية ملزم بأن تسرد حكايتك، وإلا تحوّل ما تسطره إلى ذكريات كتابية تقيم في أرشيفك وأرشيف أصدقائك فقط.
* تضمنت أولى دراسات الكتاب أطروحة جديدة مهداة للفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل. لماذا رسل دون غيره من المفكرين، بخاصة أن هذه الأطروحة جاءت في بداية دراستك لحكاية الجارية «تودّد» في «ألف ليلة وليلة»، من منظور النقد الثقافي؟
– اسمح لي بأن أستدرك قائلا : إنني أهديت الكتاب كلّه لبرتراند رسل، ولسبب بسيط يتمثّل في أنني منذ سنوات طوال طالعت سيرته الذاتية، وأدهشني جدا ما كتبه بافتتان شديد عن جوزيف كونراد، وخاصة ما كتبه عن روايته ( قلب الظلام ). وقد عدت إلى سيرته أكثر من مرة وزادت دهشتي، لأنني أعلم كما يعلم كثيرون غيري أن برتراند رسل أرستقراطي وعالم وفيلسوف ومناضل كبير جدا. ومع ذلك فقد بدا لي في هذه الصفحات التي سطرها عن جوزف كونراد بإكبار شديد وتواضع ملموس، غابطا له إلى درجة أنك تستطيع أن تتلمس رغبته الدفينة في أن يكون روائيا. هذه المفارقة هي التي أنبتت في ذهني فكرة الكتاب منذ سنوات؛ أن أشتغل على عدد من التجارب الروائية القديمة والحديثة والمعاصرة التي يتوارى فيها المفكر خلف قناع الراوي. علما بأنني خضت سابقا تجربتين نقديتين على هذا الصعيد؛ فأصدرت كتابا عن تجربة نجيب محفوظ الروائية من منظور نقدي فلسفي حضاري كما أصدرت كتابا عن تجربة مؤنس الرزاز من المنظور نفسه أيضا. وقد ظل في نفسي شيء كثير بهذا الخصوص، فقلته أو لعلي استكملت قوله عبر كتابي الأحدث ( الرّاوي مفكرا ). وعلما أيضا بأنني أفردت الصفحات التي كتبها برتراند رسل عن جوزف كونراد في ملحق خاص ختمت به الكتاب.
* تضمن الكتاب دراسات تطبيقية لأعمال الروائيين: علي أحمد باكثير، وإلياس فركوح، ومحمود شقير، ولكل منهم تجربة رواية ذات خصوصية متفردة، ترى ما الذي جمعك بهم؟ أو ما هي المشتركات فيما بينك من جانب وبينهم من جانب آخر؟
– ما جمعني ويجمعني بهؤلاء الروائيين، هو اعتنائي الدائم بالبعد الفكري والفلسفي والمعرفي عموما في أي عمل إبداعي؛ فرغم أنني لا أدّخر وسعا في العادة للوقوف على جماليات النص الأدبي وإيفائها حقّها من الوصف والتحليل والنقد، إلا أنني لا أستطيع تقبّل أو تذوّق أيّ نص إبداعي يخلو من المغزى الفكري أو الفلسفي أو المعرفي. ربما لأنني بحكم تحصيلي العلمي وتخصصي الأكاديمي واتجاهي النقدي مشغول بالمغزى والمعنى والدلالة… وربما لأنني استشعرت منذ سنوات التكوين الأولى خفوت الجانب الفلسفي في المدوّنة الأدبية العربية الحديثة والمعاصرة… وربما لأنني استشعرت أيضا ضحالة البعد المعرفي في ثقافة المبدع العربي المعاصر. وأيا كان الأمر فقد وقع اختياري على هذه النماذج لأنها تنطوي على محرّكات وهواجس فكرية لا تخطئها عين الناقد الحصيف؛ فباكثير منقوع في فرويد وكوليردج ومحمود شقير منقوع في ابن خلدون والتقابل بين البداوة والحضارة والياس فركوح منقوع في التفكيك وما بعد الحداثة. ورغم كل التقنيات التي استخدموها لتمويه هويّاتهم الفكرية من جهة وانشدادهم إلى الواقع من جهة ثانية، إلا أن مآلات تجاربهم صبّت بغزارة في أتون الواقع. وكما أكدت في مستهل كتابي وفي ختام كل قراءة على حدة، فإن الإغراق في الأحلام أو الأسطرة أو التفكيك ليس الوجه الآخر لفهم الواقع أو تفسيره. وفي كل الأحوال فإن الواقع سيظل صلبا ومستعصيا على التلاشي، مهما استعنا على ذلك بوسائل وأدوات.
* يسلط الكتاب الضوء على الأدب الروائي النسوي بوجه عام، وعلى الأدب الروائي النسوي العربي في المنفى بوجه خاص، فما أبرز المياسم الفكرية والأسلوبية التي وسمت هذا القطاع الحيوي من السرد العربي المعاصر؟
– نعم… القسم الثاني من الكتاب يطمح أيضا لاختبار حجم الحضور الفكري في الرواية النسوية العربية المغتربة. وعلاوة على أنه يؤكد عمق الهاجس النسوي في عدد من الأعمال الروائية _ أي عمق الوعي بأن الكتابة يجب أن تكون فعلا مفارقا لما اعتادته الذائقة الذكورية الأبوية _ فإنه يسلّط الضوء على الإدانة المضمرة أو المعلنة للحضارة الغربية، ولتحيزات الرجل الأبيض حتى لو أظهر غير ذلك من باب التمويه. كما ينقض المقولة المتداولة بخصوص استهداف الرجل أو الذكر على الدوام، لأن هذا الرجل أو الذكر بدا أحيانا ضحية على قدم المساواة مع المرأة. فضلا عن أنه يميط اللثام عن حقيقة إسهام المرأة نفسها في الاضطهاد الذي تعاني منه. وأخيرا فقد أظهر هذا القسم حقيقة ميل المرأة الكاتبة إلى استخدام المباشرة واللغة العارية حد التوحش أحيانا، في محاولة منها لتجسيد معادل موضوعي للواقع المدبّب والمشوّه الذي طالما حاولت الثقافة الذكورية الأبوية مواراته أو تجميله، عبر ما لا يعد ولا يحصى من ضروب البلاغة المزركشة.