سونا بدير
(كاتبة أردنية)
تقدم لنا القاصة د. امتنان الصمادي في مجموعتها “فتاة المعطف” (الآن ناشرون وموزعون، 2022) إحدى وعشرين قصة قصيرة جدا وخمس قصص قصيرة، وتعلن همّها المؤرق بصفحة الغلاف التي تظهر فيها لوحة (جاكلين مع الزهور) للفنان بابلو بيكاسو التي تظهر المرأة المتفكرة المحملة بأعباء وجودها الإنساني والجندري دون إغفال منها لما تمنحه الحياة من جمال طبيعي مجاني يحاكي ما فيها من رقة.
أما الإهداء العام للمجموعة، فحدد الرؤية التي تنطلق منها القاصة التي ترى المرأة والرجل شريكين في قراءة ذاتيهما والكون أيضا بمحاذاة بعضهما بعضا.. ندَّين في الوجود والكينونة دون تقاطع مخل بالخصوصية مذيبٍ لأحدهما على حساب آخره، فتقول في الإهداء العام: “إلى المرأة والرجل حين يعرفان كيف تمضي قراءة الذات في محاذاة الآخر”، وهي بذلك تجعل فعل القراءة فعلا وجوديا يمثل ممارسة الحياة وفهم الذات للانطلاق من خلالها لفهم الآخر والكون.
وتقدم مقالتان نقديتان المجموعة القصصية؛ أولاهما بعنوان “الصورة السينمائية في بنية القصة القصيرة جدا” للدكتورة آمنة يوسف، وثانيتهما “الأنثوية الأمومية” للدكتور إبراهيم ملحم، وبجعل القاصة النقد مفتاحا لمجموعتها فإنها تكشف عن إيمانها بالنقد مجاورا للأدب ومعينا له وكاشفا عنه، وهذا ينسجم مع شخصيتها الأكاديمية.
وجاءت شخصيات القصص عامة لا تقتصر بسماتها على جنسية محددة، بل الشخصية هي المرأة والرجل في كل مكان، لذلك نجد أن جلّ الشخصيات لم تحمل أسماء بعينها، بل اكتفت الصمادي بوصفها الرجل والمرأة والفنان والأم، وفقا لما تمثله كل شخصية في الحيز الإنساني من وظيفة ووجود، مما يؤكد على شمول الرؤية للإنسان بشكل عام لا للمرأة والرجل في مجتمع محدد فقط، فالرجل الصامت أمام المرأة المتجملة المحدقة بدخان سيجارته المتصاعد يمثل الرجل المتنكر للأنثى المشغولة به وبما يتعلق به وإن كان دخانا.
وتجعل الصمادي من الطبيعة شخصيات ناطقة مؤثرة رامزة للإنسان، فالشجرة بما تمثله من اتصال الأرض بالسماء وبوصفها نتاجا للأرض الأم ثمرا معطاء ورسوخا في الأرض، لا تجد من ينصفها من المارة الذي يعجزون عن رؤيتها كلها، وربما لن يتمكن من سبر غورها إلا الفلاح الذي يعلم حقيقة قلبها الطيب.
وتُظهر الصمادي عدة نماذج للمرأة في قصصها القصيرة جدا، ومنها المرأة الحالمة التي يطل عليها الوهم من النافذة موشوشا أزهار حديقتها دون أن يقبل دعوتها للدخول من البرد في قصة “دوائر الوهم”، ولأن المرأة الحالمة لا تملك الخبرة فإنها تتبع الوهم والحلم حتى في أحلامها، فها هي بطلتنا في قصة “الأبيض” تتبع الأبيض بما يمثله من أحلام مثالية مغوية لمن لم يملك الرؤية الواقعية القادرة على رؤية الأضداد في بعضها، فتتبع صديقتنا الحالمة أبيضها صاعدة حتى تهبط وسط مشهد جعل الحلم كابوسا، فتستيقظ وقد غرقت يداها بالأزرق دلالة على الألم، فطريق الحلم محفوفة بالحيرة والرسائل التي لا تصل والتعب والدهشة.
وتتبع المرأة الحالمة وهمها في قصة “سعادة”، فتقدم سنواتها على الجدار الذي تملؤه عقارب الساعة التي لا تتوقف، فيصير الزمن المقدم سعيا للحب زمنا متشربا لسم العقارب التي لم تترك في العمر سعادة، وبهذه القصة تجعل القاصة من المفارقة بؤرة القصة، فعقارب الوقت عقارب سامة ما دامت البطلة تقدم وقتها للوهم الذي لا يتحقق.
وتحلق بطلة قصة “لكي لا يتعب القمر” في الفضاء من شدة جمال الثوب الذي ألبستها إياه كلمات الفتى العاشق، لكن فتاها تركها أسيرة الوهم بالحب الذي تحتاجه بعد أن صارت له شمسا وقمرا لتنير عالمه، لكنه يهتدي بلا شمس وقمر باثّا ألف سؤال في رأسها.
والمرأة في القصص عاشقة محبة وإن كانت كل الإشارات ضدها، فهي في قصة “وداع” تقف تحت رحمة إشارة المرور الحمراء التي تتيح لها قرب محبوبها، كأن الضوء الأخضر الذي يمثل سريان الحياة وعمليتها ومنطقها المادي الذي يدفع الإنسان للسفر والاغتراب يقف عائقا أمام الحب الذي لم يجد له مكانا إلا في الخطوط والأضواء الحمراء المحملة بالمنع والوقف.
أما النموذج الثاني للمرأة في قصص الصمادي القصيرة جدا، فهو نموذج المرأة التي تعي وجودها وتتمسك به، وهو ما أطلق عليه د.إبراهيم ملحم في دراسته للمجموعة “الأنثوية الأمومية”، وربما ينفتح هذا المصطلح ليشتبك مع أمومية الكون الذي يبدأ من حضن المرأة المعطاءة المقدسة التي تعرف ذاتها وتقدسها، فالمرأة في قصة “حديقة” محاطة بسياج من الأشجار الباسقة التي تمثل المجتمع الأبوي بقوانينه وقيمه، إلا أن وريقات أزهارها التي تمثل الجمال والرقة والأنوثة محاطة بالفراشات والعصافير المتباهية بجمالها ولا تأبه بمن حولها، وبذلك تجعل القاصة الطبيعة حول الشخصية معادلا موضوعيا لحال المرأة الجميلة الرقيقة المحبة للحياة وسط عادات راسخة باسقة مسيجة لها، لكنها تبحث عن الإشارات في الابتسامة وصلابة اليد التي تتيح لها الابتسام دون خجل، رغم ثقل حملها والأعباء المنوطة لها حاضنة للطفل وحاملة للسلال، فهي مؤسسة الحياة، مانحة الغذاء والحب.. أما الرجل، فتعيده رائحة غريبة لكهفه، رغم تمسك المرأة بدورها ومقاومتها للألم، ولأن المرأة هنا مختلفة عن النموذج السابق فهي فعالة متحركة مانحة، تقرر وتسير وتبتسم، إلا أنها رغم محاولاتها تنتهي ميتة مبتسمة تحت وطأة وخزات النباتات الإبرية، وهي تنظر باتجاه الطريق التي تحمل رجالا لا يريدون العودة إلى الحديقة، وبذلك تصير الحديقة والمرأة والطفل والعصافير مفردات ممثلة للحب وللحلم وللأسرة، والرجل ابن الكهف لا يريد العودة لحديقة فيها عصافير مفجوعة بموت نساء مبتسمات.
وفي قصة “حنان”، تبدو الأم مشغولة بكتابة روايتها متجاهلة نداء طفلتها، مما يجعل القارئ يظن أن المرأة المثقفة نسيت أمومتها، لكن القاصة تقدم لنا المفارقة حين تخرج الأم الكاتبة لنجد طفلتها دميةً منكوشة الشعر تحتضن دمية صغيرة، فالمرأة أم بجميع صورها الوظيفية وأحوالها المجتمعية، دائما تملك الحنان الخلاق القادر على منح مَن وما حولها صبغة الألفة والإنتاج والحياة.
وفي قصة “شارع” حافظت المرأة على صورتها وردةً جميلة نقية دون أن تصدم بمعرفتها حقيقة ما ظنته حديقة، فانكشف مع مرور الوقت شارعا من الإسفلت، فالمرأة هنا تعرف واقعها وتتأمله دون أن تفقد ما فيها من أنوثة وجمال.
أما في قصة “صفحة كتاب”، ترفض المرأة التقيد بالرؤى المدجنة والسلطة الأبوية المكرسة في الكتب والورق، فهي تطالع الكون، وتجعل من صوت العصافير مرشدا لها، لكن الرجل يرفض هذه العودة للطبيعة (أمنا الأرض) ويستخف بها، فتتماهى المرأة مع الطبيعة فتصير شهابا أو حورية.
وفي قصة “فكرة”، تعكس القاصة همَّ المفكر الذي تهرب منه فكرتُه ليعود إلى أصل وجودها في الكون عصفورا حرا خارجا من إطار الورق والنافذة، رغم محاولاتها الإمساك به بالاندماج بالطبيعة بجعل شعرها ذنبَ فرس وبارتدائها بنطالا مشجرا، لكن الأفكار تبقى حرة محلقة، وبذلك تكشف لنا علاقة المرأة بالكتب والأفكار، فرأس المرأة ذات الجدائل الطويلة البيضاء في قصة “متعة” متثاقل بما حوى من كتب تذوب صفحاته وتتساقط أمام دهشتها، ونلحظ هنا أن الكتاب ملك لأخيها، وفي هذا إشارة إلى أن المرأة لم تملك الكتاب، بل استعارته، لكنه صار جزءا منها حين امتصت رحيق الكلمات واستلذت اللسع على لسانها كلما نهلت العلم.
وبذلك، تقدم الصمادي قصصها بلغة لينة سلسلة لا تشعر فيها بحدة المنعطفات التي تعرج إليها القاصة، وتترك للمفارقة الدور في ترك الأثر، وهي بجملها الفعلية القصيرة تترك الأحداث تتلو نفسها متتابعة، فجلّ قصصها تبدأ بالأفعال، موظفة المشهد والحركة السينمائية، متنقلة بين الراوي العليم والمشارك، فتنتهي القصة على الورقة وتبدأ الحكاية في نفس القارئ، تاركة للزمن دوره في كشف الأقنعة عن شخصياتها أو إزالة الغشاوة عن عيونهم، مستنطقة الطبيعة محتفلة بها، مظهرة صورة المرأة بأبعادها المختلفة.