فضاءات الاغتراب.. قراءة في صراع الشخوص والأمكنة في “المرتزق رقم 9”

فضاءات الاغتراب.. قراءة في صراع الشخوص والأمكنة في “المرتزق رقم 9”


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    الأستاذ الدكتور سلطان المعاني

    تقدم رواية «المرتزق رقم 9 من نورس الماجد إلى بهيجة العربي» لسميحة التميمي فضاءً سرديًا متشابكًا تتداخل فيه التجربة الفردية مع التكوين النفسي والوجودي للعالم، حيث يشكل السارد بؤرة مركزية تنبعث منها تيارات المعنى، وتتشكل عبرها الفضاءات السردية. تستبطن الرواية أعماق الشخصيات وهي تجاهد وسط واقع قاسٍ يمحو الهوية، ويفرض قوانين الغربة والاغتراب. يحمل النص، بأسلوبه المتشظي القارئ نحو عوالم متناقضة تتمازج فيها الرمزية مع الواقعية، مما يعزز الإحساس بمأساوية الوجود وتفكك الذات.

    يجيء السارد في الرواية راوٍ للأحداث، ومنظّم للبنية السردية، وموجه لدلالاتها العميقة. حيث تتجلى فاعليته في رسمه لمشاهد تعكس الفوضى الداخلية للشخصيات وتفاعلها مع الخارج، حيث تتحول الأسئلة المطروحة في النص إلى معابر لفهم القلق الإنساني، الذي يهيمن على حياة الأفراد في ظل واقع قمعي يتآمر على سحقهم. وتنقل الرواية عبر السارد إحساسًا متناميًا بالفقد والضياع، إذ تنحرف الشخصيات عن محاور إنسانيتها، متماهية مع عبثية العالم المحيط بها.

    يُشكِّل تيار الوعي الذي تتبناه الرواية العمود الفقري للمنظور السردي، إذ يتم من خلاله استكشاف العالم الداخلي للشخصيات، حيث تتبدد الحدود بين الماضي والحاضر، ويصبح الحنين إلى الزمن الآمن وسيلةً لمقاومة واقع ينهش المعنى. هذه التدفقات الوجدانية تنقل أفكار الشخصيات، وتعكس عجزها عن فهم ذاتها، وعن إيجاد مكان لها في عالم يهيمن عليه الحرب والموت، ويصاغ كل ذلك بأسلوب يلامس العبث، حيث تتحول اللغة إلى انعكاس نفسي عميق لحالة التشظي والضياع.

    تأتي الرموز في النص مداخل لفهم عمق التجربة الإنسانية. حيث يستخدم السارد هذه الرموز كأدوات لرصد التحولات النفسية للشخصيات، فيصبح غياب القمر مرآة لفقدان الأمل وانطفاء الروح، بينما يشكل السراج رمزًا للتوق إلى استعادة الإنسانية الضائعة. هذه الرمزية لا تقف عند حدود الشخصيات، بل تتسع لتصبح تجسيدًا لصراع أشمل بين الفرد وقوى الهيمنة التي تفرض واقعًا قاسيًا يفتقد إلى الأمان.

    تقدم الرواية منظومة سردية تتجاوز حدود الفرد، لتناقش قضايا الهيمنة والهوية من منظور ما بعد الاستعمار. الشخصيات في الرواية أدوات مستلبة داخل نظام قمعي يعيد تشكيلها وفق مصالحه، مما يجعلها فاقدة للذات، ومنفصلة عن جذورها الثقافية والاجتماعية. يتحول «المرتزق»، من خلال التجريد من اسمه وهويته، إلى نموذج للإنسان الذي أُفرغ من معناه ليصبح مجرد «رقم»، عالقًا بين صراع داخلي مع الذات، واستلاب خارجي من قبل قوى أكبر. رغم هذه القتامة، تقدم الرواية إشارات خافتة إلى مقاومة مستترة، تظهر في محاولات الشخصيات البائسة للتشبث بإنسانيتها. رسائل نورس الماجد إلى بهيجة العربي، التي تحمل في طياتها حنينًا وشوقًا إلى زمن مضى، تعكس توقًا إلى تجاوز العنف والاغتراب، لكنها في الوقت ذاته تُبرز هشاشة هذا الأمل أمام واقع يستنزف أي إمكانية للنجاة. الرواية، بهذا المزيج المتقن بين الألم والحنين، تقدم شهادة أدبية حية على مأساة الإنسان في مواجهة عبثية العالم المحيط به.

    يُحَوِّلُ السارد، بتوظيفه للغةٍ رفيعةٍ وإيقاعٍ سردي مشحون بالقلق، النص إلى شهادة على صراع إنساني وجودي يتجاوز الحدود الفردية ليصبح مرآة لمعاناة جمعية تتردد أصداؤها في كل زاوية من النص؛ فالرواية تقدم قراءة متعمقة لتداعيات الاغتراب على الإنسان، لتبقى في النهاية شهادة على هشاشة الكيان البشري أمام قسوة الزمن.

    في رواية «الرواية»، يتخذ الزمن موقعًا مركزيًا في تشكيل التجربة السردية، حيث يتسم بتداخل عميق بين الإحساس الداخلي للشخصيات، وبين الواقع الخارجي الذي تفرضه الظروف القاسية للحرب. هذا التباين بين الزمنين يُبرز الفجوة المتنامية بين وعي الشخصيات وإدراكها لما يدور حولها، مما يعمق من إحساسها بالاغتراب والتمزق.

    يظهر الإحساس بالزمن في الرواية كتيار متشظٍ يعكس الاضطراب الداخلي للشخصيات. فتدفقات تيار الوعي تكشف عن انسياب غير خطي للزمن، حيث تتداخل ذكريات الماضي مع تأملات الحاضر وأشباح المستقبل. هذا الامتزاج يخلق حالة زمنية خاصة، تفصل الشخصيات عن واقعها الموضوعي وتجعلها تعيش في فضاء داخلي يغلب عليه الحنين والفقد؛ فبالنسبة إلى المرتزق، يتوقف الزمن كمعيار خارجي، ويصبح مرتبطًا بتجربته الذاتية المشوهة، حيث يتحول الماضي إلى عبء يستحضر ألمه باستمرار، بينما يبدو الحاضر كواقع مُفرغ من أي معنى، والمستقبل كفراغ مطلق.

    على الجانب الآخر، يعكس الزمن الخارجي في الرواية صرامة الواقع القاسي وتكراره الرتيب، إذ تسير الأحداث في إطار زمني جامد يتحكم به نظام الحرب وآلياته المدمرة. هذا الزمن الموضوعي، بكل صلابته، يقف على النقيض من الزمن الداخلي الذي يعيشه المرتزق وبهيجة العربي، حيث تنعدم أي صلة حقيقية بين الإحساس الفردي بالعالم وبين واقع يُعيد إنتاج القسوة بشكل مستمر.

    التوتر بين الإحساس الذاتي بالزمن والزمن الخارجي الموضوعي يتجسد بوضوح في رسائل نورس الماجد إلى بهيجة العربي، حيث يبدو أن الزمن في هذه الرسائل يقف عند حدود الماضي، وكأنها محاولة يائسة لاستعادة لحظة أبدية من الدفء والإنسانية وسط واقع يستنزف أي معنى. هذا الإحساس بالتوقف الزمني يجعل الرسائل أشبه بصرخة محبوسة في دائرة مغلقة من الحنين والاغتراب.

    من خلال هذا التباين الزمني، تسلط الرواية الضوء على إحدى أكثر التجارب الوجودية إلحاحًا: انفصال الذات عن عالمها. الزمن الداخلي يصبح وسيلة للهروب من قسوة الحاضر، لكنه في الوقت ذاته يُعمق إحساس الشخصيات بالعجز وعدم القدرة على تجاوز الماضي. في المقابل، الزمن الخارجي، بتكراره الميكانيكي، يعزز الشعور بالاغتراب ويؤكد على استحالة المصالحة بين الداخل والخارج.

    تأتي قيمة المسؤولية في إحساس السارد بالتزامه تجاه الشخصيات، وخاصة المرتزق وبهيجة. يتحرك السرد تحت وطأة شعور ثقيل بالواجب، سواء تجاه توثيق معاناة الشخصيات أو الكشف عن التوترات النفسية والاجتماعية التي تحكم مصائرها. هذا الالتزام يجعل السارد في حالة صراع دائم بين دوره كناقل محايد وبين تورطه العاطفي، وهو ما يضيف للنص بعدًا مأساويًا. هذا التوتر بين القلق والارتباط العاطفي والمسؤولية الأخلاقية يعكس البنية العميقة للنص. والسارد، في محاولته للإمساك بخيوط المعنى وسط الفوضى، يُظهر هشاشته الإنسانية، لكنه في الوقت ذاته يبرز كحامل للوعي الجماعي الذي يجسد صراع الإنسان مع العدم. عبر هذا القلق الوجودي، تتجاوز الرواية حدود الحكاية لتتحول إلى شهادة أدبية تعكس مأساة الفرد والمجتمع في عالم يفتقر للثبات والأمان.

    يتخذ الارتباط العاطفي في الرواية شكلًا خاصًا، لا ينفصل عن الشعور بالمسؤولية الثقيلة تجاه الآخر. في رسائل نورس الماجد إلى بهيجة العربي، يتجلى هذا الارتباط كصدى متكرر لتجربة الحب في مواجهة الخراب. الكلمات التي تحملها الرسائل تُكسبها بعدًا وجوديًا، حيث لا تُكتب لتُقرأ بقدر ما تُكتب لتُنقذ كاتبها من الانهيار الكامل. هذا التعبير العاطفي الحميمي، المتشابك مع انكسارات الحرب، يجعل من الرسائل وثيقة إنسانية تُقاوم النسيان، لكنها في الوقت ذاته تُعبر عن عجز شامل عن تغيير الواقع القاسي الذي يُطارد الشخصيات.

    أما على المستوى الأعمق، تشكل المسؤولية الأخلاقية محورًا خفيًا لتحركات السرد، إذ يبدو السارد مشغولًا بتوثيق الهشاشة الإنسانية التي تُعرّيها الحرب وتفككها. ولا يتوقف السرد عند حدود الوصف، بل يغوص في طبقات المعنى، حيث تظهر الشخصيات مثقلة بعبء المسؤولية تجاه ذاتها وتجاه الآخرين، حتى في لحظات انهيارها. القلق الذي يُغلف النص يتجاوز الفردية ليصبح حالة جماعية، يُعبّر فيها السارد عن أوجاع الفرد والمجتمع، مستحضرًا التوتر الأبدي بين الحاجة إلى النجاة والإحساس بالعجز أمام جبروت القوى المدمرة.

    في هذا السياقات، تصبح الرواية مرآة لمعاناة الإنسان أمام أسئلة الوجود الكبرى. القلق الذي يُعرض كقوة دافعة تعيد تشكيل العلاقة بين الشخصيات وواقعها، بين الحب والحرب، بين الماضي والحاضر، بين الذات والآخر. والسارد، بهذا العمق النفسي والأخلاقي، يتحول إلى شاهد على انكسارات البشرية، حاملًا عبء التوثيق والبوح، وهو عبء يفيض عبر النص لينقل إلى القارئ إحساسًا عميقًا بمأساوية التجربة الإنسانية. بهذا، تتجاوز الرواية حدودها التقليدية لتصبح شهادة أدبية على القلق كدافع وجودي يحكم مصائر البشر في عالم يفتقر للثبات والمعنى.

    يتجلى في الرواية الانقطاع الوجودي كحالة متغلغلة في وعي الشخصيات وأفعالها، حيث تُطرح الحياة بوصفها تجربة مجتزأة، مفصولة عن سياقها الطبيعي، ومسكونة بالتمزق والاغتراب. الشخصيات تعيش في عالم تفككت فيه الروابط التي كانت تمنح الوجود معنى، لتتحول إلى كيانات متشظية لا تستطيع التماسك أمام قسوة الواقع. هذا الانقطاع لا يظهر فقط على مستوى الأحداث، بل يتجذر في البنية النفسية للشخصيات، وفي تداخل الأزمنة الذي يُسقط الماضي والحاضر والمستقبل في فضاء واحد يعكس العبثية المطلقة.

    يبدأ الانقطاع من الذات، حيث يظهر المرتزق كنموذج لإنسان جُرد من هويته وتاريخه. لقد تحوّل إلى مجرد «رقم 9»، فاقد لأي رابط حقيقي مع جذوره أو حتى مع ذاته، ليصبح كيانًا متأرجحًا بين دور وظيفي قسري، وحنين مبهم إلى ماضٍ لا يستطيع العودة إليه. هذا الفقدان للانتماء يخلق شعورًا دائمًا بالانفصال عن الزمن والمكان، إذ يتحول الحاضر إلى لحظة جامدة تُثقلها ذكريات الماضي التي لا تنفك تطارده، بينما المستقبل يختفي كأفق يمكن استشرافه.

    في المقابل، تُبرز بهيجة العربي الانقطاع من زاوية أخرى، حيث تعيش في فضاء نفسي مغلق يسيطر عليه الحنين إلى عالم أكثر إنسانية. لكنها، في الوقت ذاته، مكبلة بواقع حاضر يفرض عليها العجز والانفصال عن أي أمل في تغيير هذا الواقع. رسائل نورس الماجد إليها تُظهر هذا التوتر بين الاتصال والانقطاع، بين الرغبة في استعادة معنى مفقود وبين إدراك استحالة تحقيق ذلك. الكلمات التي تُكتب في الرسائل تبدو وكأنها محاولة لبناء جسر إلى الماضي، لكنها في الحقيقة شهادة على استمرارية الانقطاع الذي يطغى على الحاضر.

    ويمتد الانقطاع إلى العلاقات الإنسانية، التي تبدو في الرواية مفككة ومعزولة عن أي أفق للخلاص. الشخصيات لا تستطيع التواصل بشكل حقيقي، إذ تُثقلها عزلة داخلية تجعل كل محاولة للارتباط بالآخر عبثية. حتى الرسائل التي تبدو كأداة للتواصل، تتحول إلى وسيلة لتأكيد الفجوة بين الذات والآخر، مما يعكس طبيعة الانقطاع الذي يحكم حياة الشخصيات.

    يُجسد الانقطاع الوجودي في الرواية مأساة الإنسان المعاصر الذي يعيش في عالم يُفرغه من أي انتماء حقيقي أو معنى مستدام. فالحرب هنا قوة وجودية تفكك الروابط وتُعيد تشكيل الوعي، مما يجعل الرواية شهادة عميقة على الانفصال الذي يعانيه الإنسان، حيث يتحول إلى كيان ضائع في فضاء عبثي لا يمنحه سوى شعور دائم بالفراغ.

    تُبرز الرواية مخيمات اللجوء كرمز للواقع الجديد الذي يفرض نفسه على الشخصيات، حيث تصبح هذه المخيمات تجسيدًا للعزلة والانقطاع عن الجذور والهوية. تُعاد في هذه الفضاءات صياغة علاقة الشخصيات بالعالم وبذاتها. تتحول المخيمات إلى نقطة تصادم بين الماضي المفقود والحاضر القاسي، حيث يُجبر الأفراد على التأقلم مع واقع يُفقدهم الشعور بالانتماء ويعمق لديهم الإحساس بالاغتراب.

    تصف الرواية هذه المخيمات كمشهد من مشاهد الحرب، حيث تتحول إلى مراكز تجمع للمشردين، ولكنها في ذات الوقت مواقع تضخم الشعور بالفقد. الشخصيات التي تعيش داخل هذه المخيمات تبدو وكأنها معلقة في فراغ وجودي، غارقة في ذكريات الماضي دون أي أمل واضح في المستقبل. يصبح المكان، بما يحمله من دلالات الانفصال والانقطاع، تمثيلًا للهوية المجردة التي تُفرض على الأفراد في ظل أنظمة قهرية تفرض واقعًا مشوهًا??. هذا الفضاء الجديد، بما يحمله من رمزية، يسلط الضوء على انعدام الخيارات المتاحة أمام الشخصيات. فالمخيمات ليست ملاذًا، إنّها حالة وجودية تجسد الاستسلام والانفصال عن الواقع الطبيعي. ويُظهر السرد كيف تُمحي في هذه الفضاءات ملامح الإنسانية الفردية والجماعية، حيث تُختزل الشخصيات إلى أرقام أو كيانات وظيفية فاقدة للهوية. تتحول المخيمات بذلك إلى نقطة رمزية للصراع الأكبر الذي يناقشه النص، وهو فقدان الذات في مواجهة عالم لا يمنح سوى شعور بالفراغ والتشظي?. الرواية تستحضر مخيمات اللجوء كمرآة لواقع اجتماعي وسياسي معقد، حيث يتحول الإنسان فيها إلى كيان يتصارع مع الفقد والاغتراب في ظل ظروف تفكك الروابط الطبيعية وتُعيد تشكيل معنى الانتماء. بهذا، تصبح المخيمات رمزًا حادًا للواقع الجديد الذي تفرضه الحرب، واقع يفتقر إلى الثبات ويقود الشخصيات إلى مواجهة قاسية مع هوياتها الممزقة.

    أما الجدة فتشكل عنصرًا رمزيًا مميزًا، حيث تعمل كجسر يربط بين مستويات زمنية متداخلة، تربط الماضي الآمن بالواقع الحاضر المثقل بالفوضى والتشظي. الجدة، التي تظهر كصوت يحمل عبق الذاكرة، تعيد تفعيل ماضي الشخصيات وتمنحها نافذة للنظر إلى ما كان، لكنها في ذات الوقت ترسخ الشعور بالفقد، وكأن حضورها يبرز فجوة الاغتراب بين الماضي والحاضر. إن الجدة، الشخصية المسنة، ترمز للثبات في مواجهة قوى التغيير الجارفة. من خلال حديثها أو الإشارات إليها في النص، تستحضر الرواية زمناً يبدو أكثر إنسانية واستقرارًا، ما يبرز الحنين إليه في ظل واقع الحرب الذي أفرغ الزمن من مضمونه. هذا التوتر بين استقرار الذاكرة واضطراب الحاضر يتجلى في الطريقة التي يستحضر بها السارد الجدة، إذ تصبح جزءًا من بنية سردية تعكس الانقطاع بين الأجيال، حيث يمثل الماضي الذي تمثله الجدة عالماً قديمًا تفككت أسسه أمام العنف والانهيار.

    يُستخدم وجود الجدة كأداة لتحفيز وعي الشخصيات، خاصة المرتزق وبهيجة العربي، للوقوف أمام أسئلة الهوية والمعنى؛ فالجدة هنا شاهدة على ما مضى، وحاملة لذاكرة جماعية تثير صراع الشخصيات مع حاضرها، فتتداخل ذكريات الجدة مع تيارات وعي الشخصيات الأخرى، لتخلق لحظات سردية تعكس التوتر بين الحنين وبين القبول القسري للواقع. تجسد الجدة بذلك حضورًا رمزيًا يمتد ليحاكي صراع الإنسان مع الزمن، إذ تتحول إلى وسيط يسمح للسارد بمراقبة الزمن وهو يتمزق بين واقعه القاسي وذاكرة تبدو أكثر دفئًا. هذا الحضور يعمق من المأساة الإنسانية في الرواية، حيث يصبح الماضي الذي تستحضره الجدة مرآة تُبرز التشوه الذي طرأ على حياة الشخصيات بفعل الحرب والقهر. إنها شاهد صامت، يحمل عبء الزمن على كاهلها، بينما تعكس كلماتها وصمتها معًا ذلك الانفصال العميق بين عالمين، أحدهما كان إنسانيًا والآخر أضحى عبثيًا.

    بهذا، تقدم الرواية معالجة عميقة لفكرة الثبات والحركة، حيث يتحول هذا التوتر إلى إطار وجودي يكشف عن هشاشة الكيان الإنساني أمام قوى التغيير التي تُعيد تشكيل الهوية والواقع. الرواية، إذن، لا تروي قصة، إنها تسلط الضوء على مأساة الصراع بين الرغبة في الثبات وقسوة الحركة التي لا تُبقي على شيء.

    (صحيفة الدستور الأردنية, 3/1/2025)