قراءة في رواية “ليلة واحدة تكفي”

قراءة في رواية “ليلة واحدة تكفي”


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    “الحوار المتمدن”
    سلمى جبران

    هل ليلة واحدة تكفي؟!!
    أحيا تجربة جديدة في القراءة: أقرأ وأقرأ وأشعر أنّ الرواية تأخذني تارةً إلى الأمام وتارةً إلى الوراء وحينًا إلى حقيقة وأحيانًا إلى وهم! البحث عن معنى الوجود يتخلّل الرواية كخيوط العنكبوت ويتنامى في لغةٍ تتجلّى بعفويَّةٍ أخّاذة وإبداعٍ مُدهش.
    في القراءة الأولى أبحرْتُ في قارب الفستق وتلقفتني رياح في كلِّ الاتجاهات. في القراءة الثانية عشْتُ مسرحيّة يلعبُ فيها الرمز دورَ البطولة.
    تبدأ الرواية في 5 حزيران 1967 ويولدُ طفل لأمٍّ مخدّرة بالبنج ولم تحمِلْهُ. “وجدان” هي القابلة التي لا تريد سماع صوت الطائرات الخارقة للصوت في حين كلّ من حولَها يعدُّ “طائرات العدو التي أسقطناها”!، وتتوالى الأرقام بسخرية مُرّة خارقة للنُّطْق، تُدهَن كلّ الأبواب والشبابيك في حارات عمّان بالنيلة و”وجدان” لا تريد أن تسمع البلاغات العسكريّة والأناشيد المُلهبة وتتجه إلى خمّارة “الريفييرا” لتشرب البيرة عند البارتندر “ذيب” ص15: “العمل في الخمّارة في عمّان يعني اليقظة التامّة والمعرفة العميقة بنفوس البشر”. والانفجارات لا تزال تُسمَع وليس لها آثار دمار ص34. والصوت الصارخ في الشوارع: “اطفي الضو”، أصبحَ اللازمة التي تضعُ حدًّا بين مخاوف الحرب وزيف إسقاط الطائرات والولادة تحتَ تأثير المُخدِّر في 5 حزيران 1967.
    الانتظار يلدُ انتظارًا والخيبة تلد خيبة وفلسفة العشق تحكي عن “مَلَكة خارقة لدى النساء في قراءة نفس الرجل وأعماقِهِ” ص55. الرواية في فصلها الثاني تتدفّق وتترقرق كلماتُها وأفكارُها فتثري متعة القراءة شعورًا وفكرًا. ص64: “لا شيء يحدث عبثًا، لا في الميلاد ولا في الموت ولا في المسافة الفاصلة بينهما، كل شيء من صُنعنا نحنُ البشر”.
    شخصيّة “ذيب”، البارتندر، تُبرِز تعدُّد الشخصيّات في الإنسان الواحد وتذكِّر بتعدُّد الذوات، ست ذوات، في شخصيّة البطلة/الكاتبة، في رواية “الحليب الأسود” لأليف شافاق. ولكن في شخصيّة “ذيب” يدمج الراوي بذكاء بين الفرد والأُمّة، بين البارتندر والوضع المأزوم، بين المرأة والرجل الصامتين العصيَّيْن/ والحالميْن والوقعيّيْن، وبين الحرب واللا حرب، وبين أوهام النصر وأوهام الهزيمة، وبين أفلام الرعب والواقع المُرعب. ص120: “تقول الأخبار إنَّ جيوش الدفاع العربيّة قادمة من شتّى الأقطار وسوف تقضي على اليهود وتعيدنا إلى بيوتنا”! وهل يثير هذا…البكاء المُرّ أم الضحك المُرّ!!؟؟
    وبنفس النغمة يواصل الراوي (ص129 و ص 135) الكلام عن عتّالي الأمل ومطارِدي الأمل الذين لم ينجحوا أن يُعيدوا “الزحار”-والد “وجدان” إلى بيته في وادي النسناس في حيفا. بقيَ التشبُّث بالوهم يحرِّر من الخوف ص 147 “فالوهم هو الحقيقة الوحيدة لوجودنا”. والمرارة هنا أخذتني إلى محرِّك الطرف الآخر الذي قال: ” إذا أردتم، فهذه ليست أُسطورة!!، ونحن إذا أردنا فهذه أسطورة!!!!!
    لم تهتمّ “وجدان” بسماع أخبار الحرب وقالت: “التفاصيل الصغيرة لا تصنع فوارق في الأحداث الكبيرة” ص17. وفي سجال بين “وجدان ” و “ذيب”، قال ص19: “بل إنها الحرب، حرب فعليّة ستكون فيها نهاية الاحتلال”. وهي، وجدان تضجر من سماع الخطابات الرنّانة والأناشيد المُهيِّجة و”دعاء الشرق”، وتهتمّ بالمولود الذي لم تره أمُّهُ بعد. وفي ص40: ” تملَّكَ ذيب فرحٌ خرافيّ … سيكون أوّل عربي مدني يدخل فلسطين بعدَ أن تحرَّرَتْ”. “وجدان تردّ عليه: ” 99 بلاغًا عسكريًّا، إسقاط عشرات الطائرات بدقائق!! أيّ حرب هذه؟ لماذا فجأةً اندلَعَتْ الحرب!!؟ ما أعرِفُهُ أنّها لم تتوقّف منذ عشرينَ عامًا”. “ذيب” أراد الاقتناع بالتحرير ولم يقتنع بوجود “وجدان” وأحلامها واعتبرها أوهام. وهكذا، تبيّن أنَّ وهم وجدان واقع وواقع ذيب وهم!!
    وتبقى حانة “ذيب” المكان الوحيد لأُناس توّاقين للفرح. وأنا، كقارئة، أعترف أنّني لأوّل مرّة أفكّر أنّ “المشروبات الروحيّة” اسم على مُسمّى. دفتر فواتير الحانة بدأ اليوم الإثنين 5 حزيران 1967مع ظهور الصوت المنادي: إطفي الضو … إطفي الراديو!
    ص81 يقول الراوي: “الخمرة تجعلُكَ لا تسمع طائرات العدوّ فتُؤمن بالنصْر” وتستمرّ الحرب واللا حرب والانفجارات والصمْت …
    “وجدان”، القابلة، تفكّر في ما تعمله وتتساءل ص62: “هل هذا المخلوق البديع هو نتاج علاقة جنسيّة بينَ رجل وامرأة؟ لا بدَّ من وجود أكثر من أهميّة لهذه التجربة الناجية من بين ملايين التجارب الهالكة، ولا بدَّ أنَّ فيها قيمة أعظم!”. عمل وجدان الطويل في غرفة الولادة أضعَفَ عضلة لسانِها، فهي تعمل مع عُري النساء فتحَرَّرَتْ ص60، “لأنها ليس عندها أخ عصبي دمَوي!” حبيبُها “عيسى” كان معلّم جغرافيا وهاجر من عمّان ليعمل في الكويت ومات هناك بالسرطان وهو في ريعانِ شبابِهِ. ممّا قاله لها: “العمر لحظة مقدَّسة يجب ألّا يُفَرَّط بها”. حبّ عيسى لها نبَعَ من روحِهِ التي سكَبَها على الورق في رسائلِهِ.
    “وجدان” هي بطلة الرواية التي تشرب في الحانة والتي سخرت من الحرب وسخرت من ضجيج أناشيد التعبئة والأوهام بالنصر، ولكنّها ” تظلّ حريصة ألّا يغيِّبَها الشرب عن وعيِها أو يُفقِدَها عقلَها إلّا بالقدر الذي تُريد” ص48.
    “ذيب” بطل آخر في الرواية عاش في كآبة وغُربة واعتَبَرَ الحلم وهمًا ينزلقُ أحيانًا إلى الجنون. “للذاكرة معابرُها غير المرئيّة، عندما ينفتح وعي البشر، تُشَرَّع أبوابٌ على العُمر لم تُطرَق بعد” ص101 “وجدان” اعتبَرَتْ “ذيب” معصومًا عن الكلام، وفكَّرَتْ: “لا بُدَّ أن يُفتِّشَ عن خلاصٍ للسانِهِ الذي يبسَ، مثل لسانِها، من الصمت العميق …. ، إن لم تكنِ الحرب لجمَتْ لسانَهُ إلى الأبد!”.
    قرأْتُ الرواية الكترونيًّا ثلاث مرّات، وعشتُها بحذافيرها حتّى أنّ كلمة الآن ناشرون، التي تظهر في خلفيّة الصفحة، تحوّلَتْ إلى صورة احتضَنَت النصّ، فخَرَجَ منها! عشقي لهذا النصّ تماهى مع عشق عيسى فأصبَحْتُ جزءً منه وصارت روحي تكتب عنهُ! كتابتي عن قراءتي لهذه الرواية أفعمتني وكادت تضاهي كتابة قصيدة! وقفْتُ عندَ الأسماء لأسأل: وجدان وعيسى وذيب، هل هذه الأسماء عفويّة عَرَضيّة أم يقِفُ وراءَها أكبر من مجرّد اسم!!؟
    نصّ الرواية نصّ عميق يغوص في أعماقِ النفس الإنسانيّة ويجعلها بحرًا يغوص فيه القارئ ويستقرّ عند مكمن اللؤلؤ. وجدتُ نفسي أمام دراما إغريقيّة واقعُها خيال وخيالُها واقع!
    5حزيران 1967 كان اليوم الأوّل … هل يكفي! في الفقرة الأخيرة من الرواية ص184 نرى أنه ” في اليوم السابع .. بعد ستّة أيّام من تلك الليلة، وما إن غادَرَ آخر زبون ” الريفييرا” مبكِّرًا، أغلَقَ “ذيب” باب الزجاج بالمفتاح، انسحَبَ إلى الداخل، انسلَّ إلى جُحْرِهِ وابتدأَ كتابة رسالة “وجدان” إليهِ…”وسكتا عن الكلام” – نهاية الرواية.
    في القراءة الثالثة، دخلت إلى جوّ التكوين وقارنتُهُ بأحداث الرواية، بوهمها وواقعها، فكان اليوم الأول: “إطفي الضو” ليغيب النور. اليوم الثاني: تلبّد الجو بأدخنة وضجيج الطائرات فغابت السماء. اليوم الثالث: ابتعاد عن الأرض فغابت الحقول والنباتات وغابّ الوطن. وفي اليوم الرابع: تجمَّعَ المشرّدون في سجن الغربة فغاب عنهم القمر والشمس. وفي اليوم الخامس نَفَقَ حمار الزحار من تعب الهجيج وغابت الطيور والحيوانات. في اليوم السادس قتلوهم ودفنوهم في الأوهام والكآبة فغاب الإنسان الذي خلقه الله على صورتِهِ ومثالِه. في اليوم السابع استراح من الأمل والوهم وقَبَعَ في أقبية الوحدة وظلَّ ينتظر ال-لا شيء وال-لا أحد. وحدَثَ طباقٌ تضادّيّ للتكوين!

    وأنا أتساءل:
    هل الوطن حلم بمفهوم وجدان أم حلم بمفهوم ذيب!؟
    هل ليلة واحدة (5 حزيران 1967) كانت كافية؟! لمن!؟ في أيّ اتجاهّ!؟
    من أينَ أتى الصوت: إطفي الضو!؟ ومن صاحب هذا الصوت!؟
    ماذا فعلت الجرثومة التي هاجمت دماغ ذيب في صِغَرِهِ!؟ وهل هاجمت دماغ ذيب فقط!؟
    كيف انتصر الحوار الوجودي العميق بين وجدان وذيب!؟ وهل وصلَ إلى الحبّ!؟ وهل قَهَرَ السياسة!؟
    هل توقَفَ نبضُ الحبّ ونبضُ الكلام ونبضُ الحياة عندما أُغلِقَت الحانة!؟
    هل فَقَدَ أمر الصوت-إطفي الضو- أهمّيّتَهُ لأنَّ على أديم الأرض عمَّ الظلام وأطبق الصمت!؟
    وأخيرًا أعتقد أنَّ أفكار الرواية تترجَّلُ وتنبضُ وتلامِسُ أعمق طبقاتِ العقليّة والنفسيّة العربيّة وتلعب دورًا على مسرح الواقع وعلى مسرح العبث.
    بورِكَت الرواية وبورك الروائي قاسم توفيق!