نظَم محيي الدين ابن عربي ديواناً في الكيمياء عنونه بـ”قراضة العسجد”، رتّب أبياته الخمسمئة واثنين وسبعين على حروف المعجم، وأغلبُ عَروضه على البحر السريع، في سياق مدوّنة شعرية عربية اختصّت في هذا المجال، وكتَب فيها أمثال خالد بن يزيد، والطُّغرائي، وابن أرفع رأس، وغيرهم.
ليس هذا المؤلّف الوحيد للمتصوّف والشاعر الأندلسي (1165 – 1240)، حيث أفرد باباً في كتابه “الفتوحات المكية” بعنوان “في معرفة كيمياء السعادة”، يعرّف فيه الكيمياء بأنها “العلم الذي يختصُّ بالمقادير والأوزان”، ويقسِّمه إلى علم طبيعي، وروحاني، وإلهي، إلى جانب قصيدة مستقلة عُرفت بالقصيدة الهمزية.
يُّضاف إليها كتاب آخر بعنوان “ما أتى به الوارد”، الذي صدرت حديثاً، نسخةٌ محقّقة منه لأستاذ الدراسات العربية في “جامعة باريس” والباحث الجزائري الهواري غزالي مع تقديم لها، عن “الآن ناشرون وموزّعون”، احتوت أيضاً قصيدة الشَّيخ الأكبر المسمَّاة “كشفُ الأستار لخواصِّ الأسرار”، ورسالة بعنوان “شرح قصيدة كشف الأستار لخواصِّ الأسرار” للغوي العراقي عبد الرَّحمن السُّويدي (1722 – 1786).
- من كتب الشيخ الأكبر حول الكيمياء ديوان “قراضة العسجد“، وبابٌ في كتابه “الفتوحات المكية”
يشير المحقّق إلى أنّ الكتابَ رسالةٌ تحمل عنوانَين؛ الأول الذي اختاره، وتصدَّر: “مخطوطة كتبخانة آصفيَّة”، في مدينة حيدر آباد الهندية، ويكاد يكون مُنسجماً جدّاً مع محتوى الكتاب، إذ إنَّ ابن عربي يرى أنَّ الكيمياء يتمُّ اكتِسابُها من خلال الوارِد، والثاني “المُقنع في إيضاح السَّهل المُمتنع”، حيث عُرِفت الرِّسالة في أغلب مخطوطاتها بالعنوان الثَّاني، وهو عنوانٌ ينسجمُ حقّاً مع أسلوب بن عربي في تخصيص عناوينه بالسَّجع الدالّ.
كما يُوضّح غزالي أنّ الكتاب يمثّل امتداداً لعمله في تحقيق ديوان “قراضة العسجد” سابقاً الذي بيّن فيه بأن ابن عربي قد عزَل الكيمياء عن المناهج التجريبية، ونسبه إلى كونه من العلوم الروحية التي يؤناها الإنسان بغير واسطة، حين يقول “أعرف الكيمياء بطريق المُنازلة لا بطريق الكسب”، ويقصد بطريق الكسب التجربة والمعاينة والتحليل.
يأتي الكتاب أيضاً استجابة لتساؤلات كان يطرحها الباحث جمال الدين العمراني المراكشي، حول علاقة الكيمياء بالتصوّف في أعمال ابن عربي، وفي ما إذا كان قد مارس صنعة الكيمياء بالصيغة التي عرفها أصحاب الصنعة في زمنه، بحسب التقديم، الذي يشير فيه إلى أن “الوارد” هو مصدر الإلهام الذي ينزل على الأولياء وحياً بالأفكار السماوية وهو عند ابن عربي يحتاج إلى استعداد لديهم لقبوله، وهذا الاستعداد يكون بأمر إلهي.
ويستعرض غزالي مخطوطتين لجأ إليهما في تحقيق الكتاب، من أصل أربع توفّرت لديه، وهما نسخة حيدر آباد بعنوان “كتاب ما أتى به الوارد من حضرة أخيكم الواحد”، وهي نسخة مكتوبة في مكة عام 1614، من قِبل أبي بكر بن عبد النبي الدّها، ونسخة دمشق وتحمل عنوان “كتاب المقنع في إيضاح السهل الممتنع”، وهي مصنّفة في “دار الكتب الظاهرية” ومكتوبة بخطّ سويفي بن أحمد العدوي سنة 1896.
وفي قصيدة “كشف الأستار عن خواص الاسرار” المُلحقة بالكتاب، يقول ابن عربي: “يا طالب الأسرار في الأسماء/ إن الذي تبغيه عند الماء/ لكِنَّه الممزوج بالأهواء/ في قالب التركيب والإنشاء/ تُحيي به الأشياء بعد مماتها/ فسرائر الأحياء في الأنواء/ خذ ثالثاً من بين خمسة أنجم/ من كل ناحية على استقصاء/ وافرح بأربعة إذا حصّلتها/ لتمام ما تهوى من الخدماء/ من بعد علمكَ باسمه وصفاته/ وكمال عصمته من الأسواء/ واغسله بالماء المضاعَف حَرّه/ حتى تنظّفه من الأقذاء/ فإذا أراكَ بياضه متبرّئاً/ من علّة تدعو إلى الأدواء/ فاسحقه في صلد الحجارة ناعماً/ حتى تراه ليّن الأجزاء”.