سلام إبراهيم
يقدم الروائي مشهداً كابوسياً في صفحتها الأولى، عن كلاب برية هاجمت قرية آمنة ونهشت إحداهم مثيرة الهلع بين سكانها المختبئين خلف أبواب بيوتهم، ليهدأ في الصفحة الثانية المسار السردي ليرسم تفاصيل حياة قرية، شخصياتها وحياتها الاجتماعية ليلقى الضوء على سلالة الشخصية المحورية “إبراهيم صالح الجندي” أصغر أخوته الذي انفرد عن بقيتهم المشتغلين بالزراعة فعمل في تشغيل ماكنات الري وتصليحها، تعصف الحرب بحياة سكانها الوادعة، وتجلب جثامين الشهداء من الجبهات وسط ذعر الشباب المنتظرين دعوات تجنيدهم، فيهرب البعض إلى الصحراء، ويقدم البعض على قطع أصابعهم للخلاص من السوق لدى حداد القرية، ووسط هذا الجو المضطرب يتم دعوة “إبراهيم” للخدمة، الذي تزوج قبل سنواتٍ قليلة ولدية ولد “عمر”.
يصور في مشاهد مؤثرة قلق الجندي المساق هواجسه، خوفه، وأخيلته المرعبة الراسمة في خلواته سيناريوهات مختلفة لمقتله، في خطوة جوهرية ومهمة من خطوات انتقاء الشخصية الروائية التراجيدية المتأرجحة بين الضعف والتوازن، حبها للحياة وخوفها من فقدها، إذ يقفل بابه غرفته عليه لينهار باكيا:
“بعد فترة صمت فتح الباب وقد بدا منهاراً، وجهه أسود من الغم و عيناه تبكُّ دماً، صفعه أبوه على وجهه، أسقطه أرضاً، وصرخ في وجهه:
– بتولول ليه يا ابن العرص؟؟ دي حرب بدافع عن تراب بلدك وعرضك، هو يا ابن الكلب لو أنت واللي زيك تخاذل ونام جنب مراته، مين يدافع؟” ص14.
ويصور مشاق الليلة قبيل التسويق، تموت رغبته الجنسية من كوابيس الجبهات، فيعجز أمام شهوة الزوجة المستعرة لاحتمال فقده في مشهد حيّ يغور في تضاد الرغائب أوقات الأزمات، وسوء فهم أقرب الناس لمشاعر المتأرجح من حافة الهاوية.
يضخ الكاتب وهو يصور حياة الجنود في الجبهات الكثير من قصص الجنود في مختصرات سردية تلخص مسار حياتهم فيغني عالمه ويوسعه، والقصص المنتقاة محسوبة بدقة لتعميق مسار الحكاية وثيمها الإنسانية، فيعزف نشيداً إنسانياً عن تداخل مشاعر الجندي المسيحي المصري مع الجندي المسلم المصري “إبراهيم” من خلال “إسحاق” وملخص حياته، أغلب الجنود في الجبهات من الكادحين عمال وفلاحين، الذي يتعوق أباه برفسة ثور صاحب المزرعة التي يعمل فيها، فيضطر “أسحاق” لتعلم الخياطة فيفتح دكاناً صغيراً في القرية، تزوج وعاش بيسر إلى أن جرفه موج الحرب، يكلف في مهمة يقتل فيها، فيهتز “إبراهيم المهتز أصلاً الذي يشارك بدوره في مهمة خلف خطوط العدو، فتقتل المجموعة بكاملها وينجو ويضيع في الصحراء ولا يعثر على وحدته، وحينما نجح في الوصول إلى القطعات المصرية ولم يأبه به أحدٌ، يتسلل عائداً إلى قريته ويدعي أنه عاد في إجازة، يقضيها ويعود لتنقطع أخباره فيعتقد أهله بأنه مات أو أُسرَ، لكن بعد سنوات طويلة يعود إلى قريته شيخاً مسناً فيجد أن الجميع قد نساه، وأبنه “عمر” قد كبر وأصبح ثرياً فأقيم له حفلٌ كبير تلي فيه القرآن، ونسج الخيال الشعبي حول غيابه وعودته قصصا صورته بطلاً مغواراً عاد من رحلته الشاقة حياً، فغطت على واقع كونه شيخاً مذعوراً خائفاً من مكان نشأته، غريباً عن أبنه وزوجته، شبه مجنون من الذهول فيتدهور وضعه الإنساني الصحي والجسدي ويموت، فيراه أبنه “عمر” في الحلم، يأتي شاباً يسبح جواره في النهر، يتسابقان فيغرق الأب وتطفو جثته المتعفنة في جوٍ كابوسي لينتهي الفصل، فيتصور القارئ أن الرواية أكملت دائرتها، فماذا بعد؟.
مواصلة القراءة يكشف أن كل ما تقدم كان توطئة لدخول المجتمع المصري وما صارّ إليه من تدهور وخراب من خلال قصة إبراهيم وما جرى له في غيابه الطويل.
من الفصل 4 يبدأ السارد العليم وحتى ال 25 برواية ما حدث لإبراهيم في غيابه فيصور لنا كيف أوصله أخيه إلى محطة القطار، وبدلا من السفر يدفن ملابسه العسكرية في خلاء ويلجأ إلى قرية بعيدة أغلب سكانها من قطاع الطرق والعاملين في تجارة المخدرات فيأويه شيخها (الحاج عبد الكريم) ويسكنه في غرفة كانت معدة للتحشيش، ليتحول إلى محجة لأهل القرية بعد أن حفظ القرآن وأصبح شيخاً، ومن هنا يبدأ النص في الحفر ببنية المجتمع المصري التي رسخ فيها الفساد وتدهور القانون وتلاشت ما بني من مساواة في زمن الناصرية، وكل ذلك يأتي من خلال شخصيات مختلفة، بعضها هاجرت إلى الخليج وعادت لتبنى ثرواتها، وممن بقى وأثرى من تجارة الحشيش وعلاقة هذه التركيبة المجتمعية المتدهورة بتحولات السلطات المتعاقبة من سيء إلى أسوء، ومن خلال الشخصيات التي يحشدها الراوي محللاً جذور عنف الحركات الإسلامية المتطرفة وعنف السلطات ويقدم صورة مختلفة عن الروايات المصرية والتي يهمس بها العديد من الروائيين، ففي زيارتي للقاهرة2014 ولقائي بالروائي الصديق “إبراهيم عبد المجيد” حدثني عما فعله البلطجية بمتظاهري مدينة نصر بالقاهرة، وَصّوّرّ في رويه الشفهي بشاعة القتل التي تعرض لها شباب أخوان المسلمين، يفصله “عبد النبي” بسرد يوازن بين العنف والعنف المضاد ويحلل مسببات التطرف لدى تلك المجاميع ولدى السلطات التي نخر أجهزتها الفساد.
كل ذلك في إطار متابعة تحولات “إبراهيم” الشخصية القلقة المذعورة المتقلبة في رحلة تراجيدية كاشفاً تهاوي مجتمع فقد ما تبقى من قيمه وعادت الحياة فيه جحيماً منقسمة بشدة من ظاهر شريف وباطن سافل، يضطر فيه الجميع للكذب والسرقة والاحتيال ليستمر في العيش وسط الخراب.
14-5-2024
————
صدرت عن “الآن ناشرون موزعون”، 2024.