مفهوم الأنوثة في الرّواية “الأنثويّة”: “دفاتر الطّوفان” أنموذجًا

مفهوم الأنوثة في الرّواية “الأنثويّة”: “دفاتر الطّوفان” أنموذجًا


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    ياسمين عباس

    إنّ الشّخصيّة الرّوائيّة النّسائية في “دفاتر الطوفان” تعدّدت واختلفت تجاربها؛ فلم تُحصَر المرأة في أفقٍ بعينه، ولم تُقدَّم في صورةٍ واحدةٍ دون غيرها، فقد ظهرتِ المرأة عاملةً مثلما هي الحال مع الممرضة أسمهان، والتّاجرة الشاميّة نجمة، والخياطة الشركسيّة زازا، وظهرت ربّة منزلٍ مثلما هي الحال مع حسيبة، والحجّة فضيّة، وظهرت متعلمةً كما هي الحال في شخصيّة اعتدال التي تغادر لإتمام دراستها في بيروت، ونجمة التي تدرس في الكتّاب، ومن بين هذه الشّخصيّات عزباءُ ومتزوجةٌ، ومدنيّةٌ وفلاحةٌ، ومسلمةٌ ومسيحيّةٌ، وهكذا كان لاختلاف تجارب الشّخصيّات النّسائيّة، ولتعدّد أصولها وبيئاتها، أثرٌ في الرّواية على نحوٍ جعل المرأة في “دفاتر الطوفان” خارج قالبٍ بعينه.
    ولكنّ إمعان النّظر في الشّخصيّة الرّوائيّة النّسائيّة كما تبدو في “دفاتر الطوفان”، يجعلنا نتنبّه إلى أنّ الرّواية تنزع إلى تقديم المرأة في نماذجَ مختلفةٍ، على أنّها فاعلةٌ ولها دورها في الأحداث على مرّ التّاريخ الذي يتجاوز حدود الفترة الزمنيّة التي تغطيها الرّواية، كما سيأتي لاحقًا، وذلك في محاولةٍ لخلخلة النّموذج الثنائيّ الأبويّ للمرأة والرّجل الذي يجعل الرّجل فاعلاً إيجابيّا، في مقابل المرأة السلبيّة التي تُحصَر غالبًا في حدود الوظائف الّتي تُربَط اجتماعيًّا وثقافيًّا بطبيعتها البيولوجيّة، نحو رعاية الأطفال مثلاً. ففي “دفاتر الطوفان” تفعيلٌ لدور الأنثى بيولوجيّا، والمرأة ثقافيّا، في مقابل تأخيرٍ لدور الرّجل أمامها، وليتضح هذا، يمكن الوقوف على المواضع التي برزت فيها فاعليّة المرأة مقابل سلبيّة الرّجل، ومنها ما جاء في الحديث الأوّل([1])، “حديث الحرير”: “عندما يجتمع صنيع يراعة القزّ الأنثى، وصنيع أنثى حشرة القرمز المجلوبة من الموصل، تمنح القرمزة المجففة للحرير لون الملوك الأرجوانيّ، ويمكن للدودة العبقريّة أن تصير دواءً لرمد العيون، ووحده هذا البهاء القرمزيّ يمتلك الطاقة لعلاج الشرية التي تصيب الجسد، ولكن دهشة اللون لن تكتمل إلّا بامتزاجه بأنوثة الحرير، والأنوثة تستلزم شرش الحلاوة لتختلط النبتة الملهمة بمسحوق الدودة الفذ، هكذا يمكن الحصول على لألأ الأحمر، لون الدّم وروح الجسد يقيمان حوارًا ذكيّا مع البدن، في غمرة اللون الناريّ، يمكن للجسد أن يسترخي ويستريح، بثور الشرية تحبس جنونها إذا ما تقدّم جنون الأحمر، المرأة تطلق جنون الرّجل إذا ما شاهد الأحمر، ومجمل الرّجال التبس عليهم الأمر، ظنّوا لفرط ما تتشظّى رغباتهم لدى رؤية الأحمر أنّ الثيران أيضًا ملموسةٌ باللون، الثيران لا ترى، توترها حركة المصارع دون أن تدرك بأنّ لون رايته أحمر، اللون يوتر المصارع نفسه، وعلى الرّجال أن يرتقوا في تصوّراتهم عن ذواتهم، ليسوا ثيرانًا، والأحمر لا يليق إلّا بالعشق، ولا ينسجم إلّا مع الأنوثة، عندما تغطس خيطان الحرير فيه تتعمّد ملكة القزّ بدماء ملكة القرمز، الحرير أنثى، والأحمر أنثى، وأسمهان أنثى.”([2])
    في هذا المقطع من الخطاب السّرديّ يدفع السّرد بفاعليّة الأنثى إلى الأمام على حساب فاعليّة الرّجل التي أملاها الخطاب الأبويّ؛ إذ يظهر السّرد هنا أنّ إنتاج الحرير تمّ بفعل التقاء صنيع يراعة القزّ وأنثى القرمز، ومن ثمّ فهو من صنع الأنثى، وهذه الدودة الأنثى، وحدها القادرة على علاج رمد العين وشرية الجسد، وبهذا تكتسب الأنثى أهميّةً ودورًا لا يمكن لغيرها القيام به؛ فوحدها القادرة على العلاج، ووحدها القادرة على إنتاج الحرير بلونه الأحمر.

    ومثلما كان لمسحوق الدودة أحمر اللون دوره في علاج شريّة الجسد، كان للحرير الأحمر دوره في إثارة جنون الرّجل أمام المرأة التي ترتديه، وبهذا تُمنَح المرأة فاعليتها ويُجرَّد الرّجل من دوره بوصفه فاعلاً؛ إذ يظهر في صورة المُثار فحسب، وعليه فإنّ الخطاب السّرديّ في هذا المقطع “يعيد ترتيب الثنائيات المهيمنة على الثقافة التي طالما آثرت الرّجل بالدلالات الإيجابيّة مثل: النشاط والعقل والثقافة، في مقابل سلبيّة الأنثى، مثل: السلبيّة والعاطفة والطبيعة”([3])، وهو ما يبرز في غير موضعٍ من الرّواية، ففي “حديث الأحذية” مثلاً، يكون لدخول المرأة إلى العمل تاجرةً في سوقٍ يهيمن عليه الرّجل، دوره في الإصلاح من وضع السوق؛ فدخول التّاجرة نجمة إلى ميدانٍ كان حكرًا على الرجال، يدفعهم إلى إعادة التّفكير في رؤاهم السابقة، ويظهرهم بصورةٍ سلبيّةٍ مقابل إيجابيّة المرأة، فهم يغارون منها ويسعون إلى منافستها، جاء في “حديث الأحذية”: “ثم راحت ترتاد السوق بنفسها، تتفقد الدكاكين قبل أن تؤجرها، تتفحص الأبواب والشبابيك، وتهدي المستأجر لوكسًا على الغاز لقاء تعهده بالامتناع عن إشعال الحطب للإضاءة، أو استخدام فانوس الزيت الذي يشحبر الحيطان المشيدة بعناية، كانت دكاكين نجمة الأجمل والأوسع في السوق، حتى إنّ الحج تقي الدين شعر بالغيرة وراح يقلدها، الطريش وجد بابًا للرزق في ظلّ احتدام المنافسة بين التّجار الذين راجعوا تصوراتهم عن أناقة المكان بدخول امرأة حساسّة مثل نجمة معترك السوق.”([4])
    وبالنّظر إلى هذه النماذج من الخطاب السّرديّ، يبدو أنّ الرّواية تقوم بزعزعة مركزيّة الرّجل مقابل المرأة بالفعل؛ إذ تكسب المرأة والأنوثة الإيجابيّة التي كانت من نصيب الرّجل في الثنائيّة الأبويّة التراتبيّة (الرّجل/ المرأة)، أو (الذّكورة/ الأنوثة)، غير أنّ الوقوف على مفهوم الأنوثة كما يقدّمه الخطاب السّرديّ يدفع إلى التّفكير في هذه المسألة؛ ففاعليّة النّموذج النّسائيّ الغالب في الرّواية، وتعدّد الأدوار التي تضطلع بها الشّخصيّة النّسائيّة، واختلاف التّجارب النّسائيّة باختلاف الأصل والنشأة والدين، لم يمنع هذا كلّه ظهور الأنوثة بوصفها مفهومًا ثقافيّا اجتماعيّا محدّدًا ضمن أفقٍ بعينه، وهو ما يهمّنا في هذا النّص؛ ذلك أنّ هيمنة نموذجٍ ذهنيٍّ بعينه توحي بسيطرة مفهومٍ، وعلى نحوٍ أكثر دقّة خطابٍ ما.
    فإذا ما تتبعنا المواطن التي ظهر فيها مفهوم الأنوثة، أو تلك التي عُرِّفَت بها الشّخصيّة الرّوائيّة النسائيّة جندريًّا، نجد أنّنا في إطار تصوّرٍ جندريٍّ للأنوثة يطغى عليه ربطها بالجسد؛ أي أنّ الرّواية أقامت مفهوم الأنوثة استنادًا إلى جسد المرأة والشّكل الخارجيّ لها، وما يتبع ذلك من صفاتٍ جسديّةٍ أو معنويّةٍ، أو سلوكياتٍ تُلحَق عادةً بالأنوثة على أنّها من طبيعة المرأة، نحو نعومة الصوت، والدلال، والحساسيّة، وهي صفاتٌ تُنسَب غالبًا إلى الأنوثة دون الرّجولة في الخطاب الأبويّ، وتمثّل المنزلة الأدنى في ثنائيّة (الرّجل/ المرأة)، أو (الذّكورة/ الأنوثة) التي يبدو أنّ الرّواية سعت لقلبها، فبالعودة إلى المقطع السّرديّ الذي اقتُبِس من “حديث الحرير” وجاء فيه: “المرأة تطلق جنون الرّجل إذا ما شاهد الأحمر، ومجمل الرّجال التبس عليهم الأمر، ظنّوا لفرط ما تتشظّى رغباتهم لدى رؤية الأحمر، أنّ الثيران أيضًا ملموسةٌ باللون، الثيران لا ترى، توترها حركة المصارع دون أن تدرك بأنّ لون رايته أحمر، اللون يوتر المصارع نفسه، وعلى الرّجال أن يرتقوا في تصوّراتهم عن ذواتهم، ليسوا ثيرانًا، والأحمر لا يليق إلّا بالعشق، ولا ينسجم إلّا مع الأنوثة، عندما تغطس خيطان الحرير فيه تتعمّد ملكة القزّ بدماء ملكة القرمز، الحرير أنثى، والأحمر أنثى، وأسمهان أنثى.”([5])
    وبالسّؤال عن السّبب الذي قاد إلى القول بأنّ “أسمهان أنثى”، نلحظ أنّ هناك صفاتٍ وسلوكيّاتٍ محدّدةٍ أدّت إلى نسبة أسمهان إلى الأنوثة على هذا النحو، إلى جانب البعد الجسديّ البادي في هذا الموضع، فما هي هذه الصّفات؟
    تُقدَّم أسمهان في الرّواية في علاقتها بمحامٍ يُدعى عبد الرّزاق الشعيبيّ على أنّها امرأةٌ لعوبٌ، وعاشقةٌ جسورةٌ لا تخشى التّقاليد، وامرأةٌ متحررةٌ من رقابة أهلها البعيدين([6])، وهي عارفةٌ بتفاصيل “الغندرة” ومستلزمات الأنوثة الجسديّة، قيل في “حديث الغندورة” عنها: “لأسمهان تصوّر آخر للغندرة، صحيح أنّها ترتدي الشيالات، وأنّها واحدة من قلائل يستعملن أحمر الشفاه، وأنّها تحبّ العطر، صحيح أنّها كحلت عينيها بالأثمد العربيّ، ورأت دهشة الرّجال عندما أطّر الأسود عسل عينيها، ولكنّها تعتقد بأنّ الغندرة فلسفة خاصّة، كيف تثني المرأة رأسها عند الحديث، إلى أي جانب ترسل شعرها، كيف تتناول كأس الشاي، الأسلوب الذي تلامس شفتها زجاج الكأس، كيف يتحرّك كتفاها وهي تخلع حريرها الأحمر، أو تثني قدميها وهي تسحب شيالة الجرابات، كيف تلمس كفّ الرّجل في اللحظة المناسبة، لا قبلها ولا بعدها، كلّ هذه أساليب غندرة تفوق جنون الألوان المصطنعة، والحبّ قادر على خلق امرأة تتقن الغندرة…”([7]).
    في هذا المقطع من الخطاب السّرديّ يتبدّى لنا أنّ أسمهان على درايةٍ تامّةٍ بـ “الغندرة”، فهي التي تعرف كيف ينبغي للمرأة أن تثني رأسها عند الحديث، وكيف لها أن ترسل شعرها، وكيف عليها أن تتناول كأس الشايّ وتشربه، وهذه سلوكياتٌ، “أساليب غندرة”، إذا ما أتقنتها فإنّها تفوق الأساليب المصطنعة المشار إليها في بداية المقطع، أحمر الشفاه، والعطر، والأثمد العربي، وإتقان أسمهان لهذه الأساليب هو الذي جعلها عالمةً بـ “الغندرة”، وما “الغندرة” في الرّواية إلّا مؤشرٌ على وجود الأنثى([8])؛ فبالرّغم من أنّ الأنوثة كما يبدو في الرّواية، لا تقف عند حدود صبغ الشفاه وتكحيل العينين، غير أنّ هذا لا ينفي أنّها عُدَّت من متطلّبات الأنوثة، ومستلزمات “الغندرة” هذه كانت دليلاً على الأنوثة، فقد قيل في “حديث الغندورة”: “يخلط المتجر الحابل بالنابل، يعرض بعض الاحتياجات التي تقرّب الصغيرات من الغندرة، القضيّة ليست كيف نصبغ الشفتين أو نكحّل العينين، كلّ الأشياء التي تؤشّر على وجود الأنثى، غندرة، والأغنية المفضلة الأقرب إلى القلب التي تدفع بالبنات إلى الوقوف بدلع ودلال أمام المرآة، غندرة مشي العرايس غندرة آآآه أه.”([9])
    ومن هنا فإنّ الشكل الخارجيّ للمرأة وما يتعلّق به من مستلزماتٍ جماليّةٍ نحو أحمر الشفاه، والعطر، والكحل، والأساور، والجدائل وغيرها ممّا جاء في الرّواية، يمثّل جزءًا ممّا يدرج المرأة في أفق الأنوثة حسب الرّواية، وعلى نحوٍ أكثر دقةً، حسب لغة الخطاب التي تقف خلف الرّواية، وإن لم يكن هو العامل الوحيد الذي يجعل القول بأنّ فلانة تنتمي إلى الأنوثة، تبعًا لما جاء في “دفاتر الطوفان”.
    أمّا العامل الآخر الذي من شأنه أن يحقّق نسبة الشّخصيّة الرّوائيّة إلى أفق الأنوثة، فيتعلّق بسلوكياتٍ بعينها ترتبط بالمرأة لا الرّجل، منها الكيفيّة التي تتحرّك أو تشرب بها، كما جاء في الحديث عن أسمهان في المقطع أعلاه، ومنها ما يتعلّق بالدلع والدلال مثلما ورد في الاقتباس السابق، ومنها ما يتعلّق بالحسّ الأنثويّ وحلاوة الصوت ونعومته([10])، وبهذه الصّفات يصير انتماء الشّخصيّة الرّوائيّة إلى الأنوثة ممكنًا، ومن ثمّ يمكن القول إنّ اتّصاف أسمهان بهذه الصّفات، هو الذي أذن بالقول إنّ “أسمهان أنثى”([11]).
    بلغةٍ أخرى، حتى تُنسَب المرأة، تبعًا للرّواية، إلى الهويّة الجندريّة الأنثويّة ينبغي لها أن تتسم بسماتٍ بعينها، ومن ثمّ ليس كلّ امرأةٍ بيولوجيًّا ستنتمي إلى الأنوثة كمفهومٍ ثقافيٍّ اجتماعيٍّ، فهناك متطلباتٌ، إن جاز القول، تأذن لها بالدّخول في أفق الأنوثة، وبمجرّد تعريف الرّواية للأنوثة على النحو السابق فإنّها تقع على نحوٍ غير قصديٍّ في رؤى الخطاب الأبويّ الذي انطلقت في الأساس لخلخلة مفاهيمه؛ فتعريفها للأنوثة، وإن لم يظهر سلبيّا مثلما يبدو في الثنائيّة الأبويّة (الرّجل/ المرأة)، أو (الذّكورة/ الأنوثة)، إلّا أنّه يستند إلى التّعريف الذي وُجِد في الخطاب الأبويّ، فإذا احتفتِ الرّواية بـ “الحساسيّة الأنثويّة” كما ظهر في المقطع السّرديّ الذي تؤثر فيه حساسية نجمة على التّجار في السوق، لا يعني أنّ الرّواية تقيم مفهومها الخاصّ عن الأنوثة؛ ذلك أنّ فكرة “الحساسيّة الأنثويّة” مقابل “العقلانيّة الذكوريّة” تصنيفٌ أبويٌّ.
    وربط المرأة بالجسد الذي ترتّب عليه تقديم هويتها الجندريّة الأنثويّة من خلال الصّلة نفسها، بادٍ في غير موضعٍ من الرّواية، والمسألة ذات الأهميّة في هذا أنّ تعريف الأنوثة بحصرها بالجسد وما يتعلّق به، لم يتمّ من خلال الرّجل، وإنّما ساهمت فيها المرأة، الكاتبة؛ فالرّجل والمرأة كليهما يعرّفان الهويّة الجندريّة الأنثويّة في الرّواية بالطّريقة ذاتها، وبالتّالي يتحقّق فهمنا للأنوثة على أنّها خطابٌ لا قالبٌ نمطيٌّ من صنع الرّجل؛ فبالنّظر إلى الكيفيّة التي ينظر فيها الرّجل إلى المرأة في نصٍّ كتبه الرّجل، سنجدها لا تختلف عن تلك التي عرّفت بها المرأة ذاتها في نصٍّ صادرٍ عنها، بالرّغم من أنّ الرّواية سعت إلى إبراز نظرة الرّجل للمرأة لتظهر سلبيّته مقابل فاعليّة المرأة.
    ويتضح هذا بالوقوف عند المواضع التي ينظر فيها الرّجل إلى المرأة، وهي نظرةٌ جاءت في حدود الجسد؛ فقد جاء في “حديث السكّر” مثلاً، أنّ رجلاً يُدعَى ملحم كان قد وصف فتاةً اسمها هيام حين مرّت بالسوق بقوله: “حلوة.. حلوة.. مثل السكّر”([12])، وقد تكرّر الوصف ذاته لهذه الفتاة في موضعٍ آخر([13])، وتكرّر التعبير عن فتياتٍ أخرياتٍ في الرّواية باستخدام اللفظ ذاته “حلوة”([14])، الذي يعني أنّ رؤية الرّجل للمرأة، ومن ثمّ للأنوثة، تتمّ من خلال الشّكل الجسديّ ليس إلّا، وفي “حديث الحبّ” تمنى شابٌّ صغير السنّ يُدعى مروان، لو أنّ بإمكانه تذكّر اللحظة التي لمست فيها الممرضة أسمهان رأسه يوم كان طفلاً، جاء في الرّواية: “ويعرف أنّ زيارتها تلك ليستِ السّابقة الأوّلى، يقولون إنّها جاءت يوم أصيب بالملاريا، وضعت كمّادة شبيهة على رأسه، ومسحت رأسه بأناملها، لكنّه لا يتذكر (أخس على هيك مخ)، لعلها انحنت فوقه وابتسمت بكلّ هذا الودّ!”([15])
    وفي “حديث القطار” أيضًا تبرز نظرات الرّجال إلى الأختين، هيام واعتدال، أكثر من مرّةٍ في الحديث نفسه، من ذلك مثلاً أنّ عمّال المحطة “يمرّون بإصرارٍ ناحية الفتاتين ويبحلقون دون حرج…”([16])، وما هذا وغيره ممّا أظهرته الرّواية إلّا إثباتٌ للمنطلق الذي سارت منه من بدايتها المتعلّق بإظهار الرّجل مفعولاً سلبيّا لا فاعلاً في علاقته بالمرأة كما تقدّم القول، في الوقت الذي تتحرّر به المرأة من هذا البعد الشهوانيّ الذي نُسِب إلى الحيوانيّة، كما هي الحال في القول بأنّ الرّجال ليسوا ثيرانًا، وعليهم ألّا ينسوا ذلك([17]).
    وإذا كانتِ المرأة فاعلةً، فإنّ فاعليتها في الرّواية جاءت من أنوثتها، وهذا الاحتفاء بالأنوثة هو ما يجعل الرّواية روايةً أنثويّةً، بمفهوم إيلين شوولتر(Elaine Showalter)؛ بمعنى أنّها روايةٌ تقدّم فيها الكاتبة “أدبًا خاصّا بها” يمثّل بحثًا عن الهويّة، واكتشافًا للذات([18])، وبالنّظر في طبيعة الذّات والهويّة التي تمثّلها رواية “دفاتر الطوفان” انطلاقًا من كونها روايةً أنثويّةً بمفهوم شوولتر، يمكن القول بأنّها، وإن كانت تحتفي بالذّات الأنثويّة، إلّا أنّ احتفاءها يعدّ احتفاءً بمفهوم الأنوثة بوصفه صياغةً ثقافيّةً اجتماعيّةً عرّفتِ الأنوثة بأبعادٍ بعينها، وهي الأبعاد ذاتها التي نجدها في تعريف الخطاب الأبويّ للأنوثة؛ فالطريقة التي تعرّف بها المرأة ذاتها لا تختلف عن الرّؤية التي ينظر الرّجل عبرها للمرأة، فهي شأنها شأن الرّجل لا تخرج عن حدود الجسد، والقول بأنّ تعريف الأنوثة في رواية “دفاتر الطوفان” تمّ بربطها بالجسد ومتعلقاته، يبرز في الصّوت السّرديّ الذي يكشف عن رؤية الرّواية حول الأنوثة، ومن هنا كان لزامًا علينا أن ندرس التشكيل السّرديّ للرّواية للكشف عن الرّؤية.
    إنّ ما يلفت الانتباه في الخطاب السّرديّ للرّواية هو طبيعة السّاردين؛ فالأحداث الرّوائيّة تُسرَد في هيئة أحاديث تسردها الأشياء والأيام وبعض الشّخصيّات الرّوائيّة، نحو “حديث الحرير”، و”حديث السكّر”، و”حديث اليوم”، و”حديث الرّحالة”… وبسرد الأشياء والشّخصيّات هذه، نطلع على الأحداث والشخصيات الرّوائيّة والعلاقات القائمة بينها، ونتبيّن هذا بالنّظر، على سبيل المثال، إلى “حديث السكّر”، حيث يضطلع السكّر بمهمّة السّرد: “بيني وبين النساء أسرار يمكن للدهشة ذاتها أن تقف أمامها بلهاء فاغرةً فاها، بيني وبين النساء عشقٌ منذ اكتشفت ملكة سبأ سحر فعلي فقوضت نوم سليمان، كان يختال عليها برواق من بلور، واختالت بفعل السكر، النساء يشحذنني سلاحًا عندما يبدأن بغطس أناملهن المنمنة الناعمة، بالذّات البنصر، يغمسنه في السكر ويمصمصنه مستلذات، يمكن لتاريخ حوّاء أن ينتصب ويشحن تلك المرأة المستكينة في بيتها الواقع فوق دكاكين الأقمشة وملابس العرائس في شارع السعادة.”([19])
    إنّ هذا الخطاب ضمن بنية السّرد، شأنه شأن المقاطع السّرديّة المُقتبَسة آنفًا، لا يقدّم حدثًا من الأحداث التي تشكّل قصّة الرّواية، ويمكن أن نحذفه دون إخلالٍ بالقصّة ذاتها، لكنّ هذا لا يعني أنّه كلامٌ لا حاجة له؛ فهذا الخطاب وغيره من شأنه أن يكشف لنا عن رؤية الرّواية، والتفاصيل، القرائن، التي نجدها حاضرةً في هذا المقطع وغيره، ويتمّ عبرها تطويل زمن السّرد على حساب زمن القصّة لم تأتِ إلّا لتقدّم دلالةً ما من شأنها أن توصل إلى رؤية الرّواية حول الأنوثة؛ فالخطاب السّرديّ هنا يظهر نظرة الرّجل إلى المرأة التي نوقشت سابقًا، فمنذ أن اكتشفت بلقيس ملكة سبأ السكّر لنعومة جسدها، كانت قد قوّضت نوم النبيّ سليمان، عليه السّلام، وفقًا لمنظور الرّواية، وبهذا يجعل الخطاب السّرديّ للمرأة دورًا فاعلاً منذ القدم، ويجعل صلة الرجل بالمرأة صلةً جسديّةً حتى عندما كان الرّجل نبيّا! وإن كان السّرد في الظاهر يرمي إلى إعطاء المرأة فاعليتها التي طالما سُلِبت منها، إلّا أنّه بإصراره على تعريف الأنوثة وإظهار المرأة في حدود الجسد ومتطلباته، يحصرها في ما قدّمه الخطاب الأبويّ عن المرأة والأنوثة من مفاهيمَ، حتى وإن غلب الاحتفاء بالجسد ومتطلباته “الأنثويّة”، على الخطاب السّرديّ الذي تعدّدت فيه الأصوات السّرديّة.
    ففي الخطاب السّرديّ لـ “دفاتر الطوفان” ثمّة تناوبٌ في السّرد بين الأشياء التي أسندت إليها مهمّة السّرد في أحاديث الرّواية، كما جاء في حديث الحرير والحلقوم والأحذية…؛ فالصوت السّرديّ لم يكن أحاديًّا، وقد اختلفت صيغته أيضًا في ثلاثة أنساقٍ سرديّةٍ.
    أمّا النسق السّرديّ الأوّل فتقوم فيه الشّخصيّة بسرد الأحداث الرّوائيّة، لكنّ الأحداث ضمن هذا النسق في رواية “دفاتر الطوفان”، بدت في هيئة أحداثٍ معروضةٍ أمام القارئ الذي يغدو كالمشاهد([20])، وهو ما جاء مثلاً في “حديث الحرير”، يقول الحرير: “لا يصاب الرّجال عادة بالجنون لدى مشاهدتي، يحدث هذا للنساء، عاملات النسيج في معامل الحرير ينتهين إلى العصفوريّة غالبًا، أمّا الرّجال فيشتعل منهم الخيال، كنت أسترخي وأنثني فوق ذراعه وعلى خياله، الحرير بما هو قماش لا يعني للرّجل شيئًا إذا لم يعبئه بحرير من لحمٍ طريٍّ، هكذا كنت أستلقي على ذراعه، وخياله يحشر هيكلها اللدن الأبيض في ثنياتي.”([21])
    إنّ مثل هذا السّرد ينتهي إلى إيصال دلالةٍ ما ومعنى ذي مغزى محدّد يتجاوز الحدث الروائيّ؛ أي رؤية المحامي للحرير في محلّ الأقمشة، وبالاستناد إلى ما نوقش آنفًا حول الأنوثة، يبدو أنّ سرد الحرير هنا يرمي إلى الكشف عن الكيفيّة التي ينظر فيها الرّجل إلى المرأة، وإلى أيّ من متعلقاتها، وتبعًا للحرير فإنّ الرّجل إذا ما رآه بوصفه شيئًا يوحي بالأنوثة، يشتعل خياله بجسد المرأة التي ترتديه، وعلى هذا النحو يظهر الرّجل متأثرًا لا بجسد المرأة فحسب؛ بل بأيّ شيءٍ يمكن أن يوحي له بالمرأة والأنوثة.
    ويمكن للقارئـ/ـة استنباط الرّؤية ذاتها في النسق السّرديّ الثّاني ضمن الخطاب الروائيّ، وهو النسق الذي يضطلع فيه السّارد العليم بمهمّة سرد الأحداث([22])، كما جاء في “حديث الحبّ” على سبيل المثال، ففي هذا الحديث يظهر السّارد، الحبّ، عالمًا بكلّ شيءٍ، بما في ذلك دواخل الشّخصيّات، يقول عن أسمهان: “لأنّها امرأة عاشقة، يستحيل عليها حساب السنين والأيام، ولأنّها معشوقة، تظنّ أنّ ليس هناك من امرأة في جمالها في برّ عمان، تعرف بأنّ الفاتنات معدودات، وأنّ خيالات الرجال تصنع من لابسات خمار الجورجيت حور عين، ولكنّها لا تخفي حسنها المتواضع، تكشف عن وجهها ببساطة…”([23])، فكما هي الحال في النسق السّرديّ السابق كما ظهر في “حديث الحرير”، إنّ “حديث الحبّ” يقدّم وجهة نظرٍ حول الصّلة بين المرأة والرّجل؛ فيبدو أنّ المرأة ستواجه خيالات الرّجل الجنسيّة، حتى وإن ارتدت خمارًا، حسب الرّواية.
    والرّؤية ذاتها نجدها حاضرةً ضمن النسق السّرديّ الثّالث الذي يُسنَد فيه السّرد إلى إحدى الشّخصيّات الرّوائيّة التي تروي الأحداث وفقًا لرؤيتها الذّاتيّة، وقد جاء هذا النسق السّرديّ في الرّواية في صيغة حديث رحّالةٍ، محاكيًا صيغة السّرد في “أدب الرّحلات” العربيّة القديم([24])، فقد جاء في نصّ رحلة عبد الله سيف الدين الغسانيّ إلى عمّانَ: “يقوم الحمام عند طلوع المصدار الحادّ، قريبًا منه في منطقة وسط بين المستشفى والمسجد، قريبًا منه، وفي ممر ضيّق يقبع أكثر أسرار عمان غرابة، ففي الشارع الذي سماه الناس شارع السّرور، تقوم دور معدودة لنسوة يمتهن بيع الجسد، أشهرهن مومس يقال لها “فاطمة”، يحظى المكان بالحماية الرّسمية والرّعاية الطبية، فجل من ينزل المدينة من العزاب الذكور، وصيانة عرض الفاضلات، وحماية الحرائر من النساء تستوجب الرقيق منهن، وهكذا كان شارع السرور، وللحقّ فإنّ الدّخول إليه مشروطٌ بالسّريّة الكبيرة، ولما كانت كلّ جسور عمّان في الأحياء من الحديد، فإنّ جسر الحمام كان يصدر صوتًا لدى مرور الماشين فوقه، حتى صدر الأمر بتحويل الحديد إلى خشب خفيف، يتحمل وقع خطوات العابرين ولا يفضح مرورهم، وكان مبنى المشفى المرتفع في طوابق أربعة يعني بالتّأكيد أنّ النسوة الغريبات محصنات من الأمراض بإشراف طبي متتابع، وهكذا استطاع الرّجال أن يردوا شارع السرور خلسة، ثم يهبطوا إلى حمام النّصر صباحًا، فيغتسلون وتُمحَى عن أجسادهم الصّغائر والكبائر، ثم إذا نادى المنادي، قادتهم خطواتهم إلى المسجد فركعوا وسجدوا واستغفروا ربهم.”([25])
    ومن ثمّ فإنّ نصّ الرّحلة هذا يحمل الرّؤية ذاتها التي نجدها في الرّواية حول نظرة الرّجل إلى المرأة التي تظهر الرّجل في صورةٍ سلبيّةٍ شهوانيّةٍ، ومن ثمّ تمنح المرأة إيجابيّةً تخرجها عن إطار التّفكير الجنسيّ كما يظهر عند الرّجل حسب الرّواية، ونكرّر ثانيةً أنّنا لا نجادل بشأن هذه الصورة ومدى مطابقتها للواقع أم لا، وإنّما نجادل في سبيل التّأكيد على أنّ إظهار المرأة بحصرها في حدود الجسد، وإن كان في موقفٍ يحتفي بالأنوثة، فإنّه يبقي على تعريف هويتها الجندريّة جسديًّا، وكأنّه يجعلها حبيسة جسدٍ ومستلزماتٍ جسديّةٍ تتطلّبها الأنوثة، كالحرير، والسكر، والعطر، والأساور، وغيرها، وإن ظهرت هذه المستلزمات في خطابٍ يهدف إلى إظهار خصوصيّة التجربة الأنثويّة، إلّا أنّه يبقي عليها دون إدراكٍ للبعد الأبويّ الذي تنطوي عليه.
    بإيجاز؛ إنّ احتفاء الرّواية بالأنوثة ينطلق من خطابٍ ما بعد نّسويٍّ، أنثويٍّ، تسعى فيه المرأة إلى إقامة مفهومٍ للأنوثة يتجاوز الخطاب الأبويّ الذي حمّل الأنوثة مضمونًا سلبيّا، لكنّ النّص الروائيّ على الرّغم من مسعاه هذا، فإنّه يقع في مقرّرات الخطاب الأبويّ؛ فاحتفاء الرّواية بالأنوثة وما أُلحِقَ بها، كما جاء أعلاه، ليس إلّا احتفاءً بالمفهوم المقرّر من الخطاب الأبويّ في نهاية المطاف؛ لأنّها تقرّ بالمفهوم الأبويّ، على أنّه خاصٌّ بالمرأة دون الرّجل، ومن ثمّ تحتفي به وتظهر تفوقه، فهي تبقي على الصّفات الأنثويّة التي اكتسبت البعد السلبيّ في الثنائيّة، وتسعى إلى انتزاع مكانةٍ إيجابيّةٍ لها بدلاً من تلك السلبيّة التي أُقِّرَت ثقافيًّا، فتظهر الأنوثة بذلك في المنزلة الأعلى ضمن الثنائيّة بالاحتفاء بالمفهوم المقرّر أبويًّا، أو بمحاولة نسبة صفةٍ كانت حكرًا على الرّجل في الثنائيّة الأبويّة، إلى الأنوثة وسلبها من الذكورة، نحو العقلانيّة والذّكاء([26])، فهذه الصّفات إنسانيّةٌ، وكون امرأةٍ ما ذكيةً ليس نابعًا من أنوثتها. إنّ نسبة صفةٍ من الصّفات التي حصرت ثقافيًّا بالرّجل إلى الأنوثة بسلبها منه ينطوي على اعترافٍ ضمنيٍّ بأنّ تلك الصّفة، الممثلة بالعقلانيّة في الرّواية، تحتلّ المكانة الأعلى في ثنائيّة (الرّجل/ المرأة)، أو (الذّكورة/ الأنوثة)، ومن ثمّ فإنّ هذا ينطوي على اعترافٍ لا واعٍ بأنّ الرّجل معيارٌ؛ فلِمَ سُلِب الرّجل الذكاء ليثبتَ الذكاء للمرأة والأنوثة! إنّها صفةٌ إنسانيّةٌ لا تُحصَر بالنوع البيولوجيّ أو الاجتماعيّ؛ فقلب المكانة في ثنائيّة (الرّجل/ المرأة)، أو (الذّكورة/ الأنوثة)، يعني انتزاعًا لمكانة المعيار، ومن ثمّ اعترافًا ضمنيّا بمعياريته.
    وفي ضوء دراسة الخطاب السّرديّ فإنّ دراسة الزمن في الرّواية من شأنها أن تكشف الرّؤية التي يكتنفها النصّ، وحتى نتمكّن من الوصول إلى الرّؤية في دراسة الزّمن، لا بدّ من تتبّع العلاقة بين زمن القصّة وزمن الخطاب، زمن السّرد، أمّا زمن القصّة فهو الزّمن الذي جرت فيه الأحداث وفقًا للترتيب المنطقيّ التسلسليّ([27])، في حين أنّ زمن السّرد يمثّل الزّمن المستغرق لسرد القصّة([28])، وإلى جانب دراسة العلاقة بين زمن القصّة وزمن الخطاب، يمكن أن يُفتَح أمامنا أفقٌ يتعلّق بدراسة ما يسمّيه سعيد يقطين بـ “زمن النصّ”، يقول: “بواسطة زمن الخطاب يتمّ “سلب” زمن القصّة خطيته وكونه مادّةً خامًا، لذلك فإنّنا في انتقالنا من زمن القصّة إلى زمن الخطاب نجدنا ننتقل من التّجربة الواقعيّة ذهنيًا (ذات الطابع المشترك)، إلى التّجربة الذّاتيّة (ذات الكاتب)، وهي تسعى إلى تجسيد نظرةٍ خاصّةٍ للزمن”([29])، وعليه فإنّ الوقوف على علاقة زمن القصّة بزمن الخطاب، يمثّل البعد الأوّل الذي سيتمّ النّظر فيه متبوعًا ببعدٍ آخر يتيحه مفهوم النصّ عند فان دايك، ويتعلّق أيضًا بالعلاقة بين زمن القصّة وزمن الخطاب، لكن من منظور إنتاج النصّ وتلقيه.
    إنّ علاقة زمن السّرد بزمن القصّة تتبدّى في تطويل زمن السّرد على حساب زمن القصّة في بعض الأحيان مقابل تقصيره في أحيانٍ أخرى، وبالنّظر إلى المقاطع المُقتبَسة سابقًا يمكن تبيّن ذلك، ففي المقاطع السّابقة التي تمّ التّركيز فيها على الوظائف الاندماجيّة مقابل الوظائف التوزيعيّة تمّ تطويل زمن السّرد، وبالعودة إلى المقطع المُقتبَس سابقًا على لسان الحرير الذي جاء فيه: “لا يصاب الرجال عادة بالجنون لدى مشاهدتي، يحدث هذا للنساء، عاملات النسيج
    في معامل الحرير ينتهين إلى العصفوريّة غالبًا، أمّا الرجال فيشتعل منهم الخيال، كنت استرخي وأنثني فوق ذراعه وعلى خياله، الحرير بما هو قماش لا يعني للرّجل شيئًا إذا لم يعبئه بحرير من لحمٍ طريٍّ، هكذا كنت أستلقي على ذراعه، وخياله يحشر هيكلها اللدن الأبيض في ثنياتي.”([30])
    إنّ هذا المقطع السّرديّ يقدّم حدثًا يُجمَل برؤية عبد الرّزاق الشعيبي للحرير في السوق، ومن ثمّ فإنّ زمن القصّة يتوقف هنا لحساب زمن السّرد، بالرّغم من أنّ الحدث الذي يقدّمه المقطع السابق ليس نوويّا، ومن ثمّ فإنّه يعكس رؤيةً ما، تتعلّق كما تقدّم القول بسلبيّة الرّجل التي تظهره مفعولاً مثارًا فحسب. وبالسير نحو علاقة زمن السّرد وزمن القصّة بما سمّاه يقطين “زمن النصّ”، يمكن الإفادة من فان دايك؛ ففان دايك ذهب إلى أنّ تطويل الزمن أو تقصيره نابعٌ من قصديّةٍ ما لدى المتكلّمـ/ـة، ومن شأنها أن تنعكس في التلقي، يقول فان دايك: “وقد يصير شيئًا ما مسلّطًا عليه التّركيز حتى يحصل في بؤرة الوعي أو الشعور، ربما مثلاً لأنّ هذا الموضوع أو هذا الشيء له خواصٌّ مميزةٌ، ولأنّه مفحوصٌ عنه، وغير ذلك.”([31])
    ومن ثمّ فإنّ تطويل زمن السّرد مقابل زمن القصّة الذي يطغى على الخطاب السّرديّ لرواية “دفاتر الطوفان”، كان قادرًا على الكشف عن رؤيةٍ ما لدى الكاتبة من ناحيةٍ، وقادرًا على توجيه تركيز القرّاء/ القارئات باتجاه نواحٍ بعينها في النّص من ناحيةٍ أخرى؛ فقد كان لهذا التّكثيف السّرديّ في مواضع بعينها دوره في تقديم رؤية الرّواية.
    وعليه فإنّ “زمن النصّ” من ناحية الكاتب يتجسّد في تلك العلاقة التي تظهر في علاقة زمن السّرد بزمن القصّة تطويلاً أو تقصيرًا، ومن ثمّ فإنّه يضيء فكرةً أو يخفيها([32])، في حين أنّ “زمن النصّ” من ناحيةٍ ثانيةٍ، تقع على المستوى الخارجيّ، كما يرى يقطين، فيتعلّق بالتّلقي([33])، ويوجزه بالقول: “وكما يقدم الكاتب على إنتاج دلالة من خلال بنائه إياه، فكذلك القارئ يفتح هذه الدلالة (ات) عن طريق إعادة بناء النصّ وفق تصوّره وخلفيته النصيّة الخاصّة سيّان.”([34]) ولكن لا بدّ من الوقوف عند هذه المسألة للتّأكيد على أنّ إنتاج الدلالة عبر “زمن النصّ” في علاقته بالكاتبـ/ـة لا يعني أنّها دلالةٌ ذاتيّةٌ، والأمر ذاته ينطبق على التلقّي؛ فبناء قصدٍ مفترضٍ لدى المتلقي/ـة لا يعني أنّه لا يستند فيه إلى نموذجٍ أو منظومةٍ ذهنيّةٍ ما.
    فبالاستناد إلى ما تقدّم، يمكن القول إنّ علاقة زمن السّرد بزمن القصّة، وتعدّد الأصوات السّرديّة في “دفاتر الطوفان” واختلاف أنساقها السّرديّة، لم يأتِ من أجل تقديم الأحداث التاريخيّة بالطبع، وإنّما جاء من أجل تعميق فكرةٍ ما، وتجلية جوانبَ لا تبرزها القصّة، لكنّ هذا التعدّد لا ينطوي على تعددٍ في الرؤى، كما جاء سابقًا؛ فمفهوم الأنوثة في الرّواية واحدٌ بالرّغم من أنّ التبئير فيها متغيّرٌ، وهو مفهومٌ يُقام في حدود الجسد ومتطلباته من ناحيةٍ، وفي أفق الصّفات التي ألصقت بالمرأة وألحقت بالأنوثة على أنّها أصلٌ فيها، ضمن الثنائية الأبويّة كالحساسيّة والأناقة والدلال، من ناحيةٍ ثانيةٍ.
    على ألّا يُفهَم من هذا أنّ الرّواية نصٌّ متجلٍ للخطاب الأبويّ وحسب؛ فهو ينطلق من خطابٍ أنثويٍّ ليقع في أفق الخطاب الأبويّ على نحوٍ غير قصديّ، وفي مقالها “النّسويّ، الأنثويّ، المؤنث” تبيّن توريل موي هذه المسألة بقولها: “وبقدر ما هو مثيرٌ للرّضا أن يُقال لنا إنّ النساء حقًا قويات ومندمجات ومحبّات للسّلام ومعتنيات بالتربيّة وكيانات مبدعة وخلاقة؛ إلّا أنّ هذا الجمع من الفضائل الجديدة لا يقلّ جوهريّةً عن الفضائل القديمة، ولا يقلّ في تأثيره القامع لكلّ امرأة لا ترغب في أن تلعب دور “أمّ الأرض”، فالأبويّة لا النسويّة هي التي آمنت دومًا في وجود طبيعة حقيقيّة تتصف بالأنوثة/ الأنثويّة. فمفهوما الكيان البيولوجيّ والطبيعة الجوهريّة، كامنان خلف الرغبة في إضفاء الفضائل الأنثويّة على كافة أجساد الإناث، بما يحقّق بالضرورة مصالح الآباء.”([35]) وعليه يكون الاحتفاء بالأنوثة في “دفاتر الطوفان” قد انزلق دون أن تقصد الكاتبة إلى أفق الخطاب الأبويّ الذي جاء في الأساس ليتجاوزه.

    هوامش المقالة

    ([1]) تقوم البنيّة السرديّة للرّواية على مجموعة من الأحاديث تقدّم مجتمعة قصّة الرّواية.

    ([2]) خريس، سميحة (2009)، دفاتر الطوفان، ص8-9.

    ([3]) عبابنة، سامي (2015)، تحولات الأنساق السّردية والثقافية في رواية “دفاتر الطوفان” لسميحة خريس. مجلة العلوم الإنسانيَّة- جامعة البحرين، العدد (25)، ص307.

    ([4]) خريس، سميحة (2009)، دفاتر الطوفان، ص22-23.

    ([5]) خريس، سميحة (2009)، دفاتر الطوفان، ص8-9.

    ([6]) ينظر: المرجع نفسه، ص9-10.

    ([7]) المرجع نفسه، ص80.

    ([8]) ينظر: خريس، سميحة (2009)، دفاتر الطوفان، ص70.

    ([9]) المرجع نفسه، ص70.

    ([10]) ينظر: المرجع نفسه، ص53.

    ([11]) المرجع نفسه: ص9.

    ([12]) خريس، سميحة (2009)، دفاتر الطوفان، ص51

    ([13]) ينظر: المرجع نفسه، ص69.

    ([14]) ينظر: المرجع نفسه، ص124.

    ([15]) المرجع نفسه، ص135.

    ([16]) المرجع نفسه، ص154.

    ([17]) ينظر: المرجع نفسه، ص8-9.

    ([18]) ينظر: ليبيهان، جيل، النسويَّة والأدب، في: جامبل، سارة (محرَّرة)، النِّسويّة وما بعد النِّسويّة: دراسات ومعجم نقدي، ص199.

    ([19]) خريس، سميحة (2009)، دفاتر الطوفان، ص53.

    ([20]) ينظر: عبابنة، سامي (2015)، تحولات الأنساق السّردية والثقافية في رواية “دفاتر الطوفان” لسميحة خريس، ص307.

    ([21]) خريس، سميحة (2009)، دفاتر الطوفان، ص6.

    ([22]) ينظر: عبابنة، سامي (2015)، تحولات الأنساق السّردية والثقافية في رواية “دفاتر الطوفان” لسميحة خريس، ص308.

    ([23]) خريس، سميحة (2009)، دفاتر الطوفان، ص136.

    ([24]) ينظر: عبابنة، سامي (2015)، تحولات الأنساق السّردية والثقافية في رواية “دفاتر الطوفان” لسميحة خريس، ص309.

    ([25]) خريس، سميحة (2009)، دفاتر الطوفان، ص189.

    ([26]) ينظر: عبابنة، سامي (2015)، تحولات الأنساق السّردية والثقافية في رواية “دفاتر الطوفان” لسميحة خريس، ص307.

    ([27]) ينظر: يقطين، سعيد (2001)، انفتاح النصّ الروائي: النصّ والسياق، (ط2)، الدار البيضاء وبيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، ص46.

    ([28]) ينظر: المرجع نفسه، ص47.

    ([29]) المرجع نفسه، ص47.

    ([30]) خريس، سميحة (2009)، دفاتر الطوفان، ص6.

    ([31]) دايك، فان (2000)، النصّ والسياق: استقصاء البحث في الخطاب الدلاليّ والتداوليّ، ص155.

    ([32]) ينظر: يقطين، سعيد (2001)، انفتاح النصّ الروائيّ: النصّ والسياق، ص53.

    ([33]) ينظر: المرجع نفسه ، ص76.

    ([34]) المرجع نفسه، ص76.

    ([35]) موي، توريل (1986)، النسويّ، الأنثويّ، المؤنث. في: كمال، هالة (محررة)، النقد الأدبيّ النّسويّ، (ط1)، القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، ص209.

    نشر في (سابر للعربية والأد والتراث)
    20 يونيو 2023