“د. مريم الهاشمي”
تُعرَّفُ القصيدةُ على أنَّها خلاصة اللغة وكثافتها الدلاليّة، وأنّها خلاصة الفنون الكثيفة، وهي إنتاجٌ نوعيٌّ في اللغة، وأصبحت متميّزاً بما تخفيه من أسرار في تكوينها وانتظامها، وتحوّل العلاقة فيها بين الدال والمدلول، بل خلق علاقات جديدة بين الكلمات والأشياء، والشعر يُشكّلُ مصدرَ معرفة باطنيّة وذوقيّة، وقد يكون مصدر معرفة بأسلوب العصر الذي يظهر فيه، وهو أساس المعرفة الذوقيّة أو القلبيّة التي حاولت الغنوصيّة بشكلٍ خاصٍّ أن تُعبِّرَ عنها انطلاقاً من الدين والفلسفة، باعتبارها قوةً شاحنةً متحرّرةً من القوالب الإبستمولوجيّة.
وما يلفِتُ النّظرَ هو الاقتران بين الوظيفة والتلقّي، وسببه هو الاعتقاد من وثيق الارتباط بين الأمرين، ويلتفت في ذلك “هيجل”، فيقول عن الشعر إنَّه الذي يروم التعليم، أو تهذيب الأخلاق، أو إثارة القلق، أو تقديم وسيلة لتزجية الوقت، وتوفير متعة سطحيّة؛ ليرى في كلّ ذلك أهدافاً يُمكن للشعر أن يُسهِمَ في تحقيقها.
كان الشعر أوفر حظّاً من الفلسفة وأسمى مقاماً من التاريخ؛ لأنَّ الشعر يروي الكلّيّ، بينما التاريخ يروي الجزئيّ، وأنَّ الشاعر يجبُ أن يكون صانعَ حكاياتٍ وخرافاتٍ أكثرَ منه صانعَ أشعارٍ؛ لأنَّه شاعر بفضل المحاكاة، وهو يُحاكي أفعالاً، ونُسلِّطُ الضوء هنا على حضور القصيدة الجديدة الأردنيّة، وما وقع فيها من تحوّل وتغيّر، حالها حال القصيدة العربيّة على اختلاف البقع الجغرافيّة المنتمية إليها، ووقع بين أيدينا ديوان للشاعر ماهر القيسي كأنموذج للقصيدة الجديدة الأردنيّة، في محاولة للوقوف على لمحات من التحوّل اللغويّ والمضمونيّ، والتصويريّ والتعبيريّ فيها.
نجد تداخل الشعر مع الأجناس الأدبيّة الأخرى؛ ليلتقيَ مع المسرح – مثلاً – في علاقة جدليّة، ولا غرابة في ذلك، فقد بدأ الشعر مسرحيّاً، وإن شئت فقل: بدأ المسرحُ شعراً، وكذلك نجده متداخلاً مع الرواية، ولعلَّ أهمَّ ما استعارته القصيدة الحديثة من الرواية، الرؤية السرديّة والارتداد والمونولوج، فالارتداد هو قطع التسلسل الزمنيّ والعودة من اللحظة الحاضرة إلى بعض الأحداث التي وقعت في الماضي، ويستعير الشاعر الحديث هذا البناء، ويُطوِّعه لعمله الشعريّ.
كنتُ دربيلَ الصيّاد
صرتُ غصناً بفرعينِ لارتكاز العشّ
كنتُ مصلب الهدفِ في عدسة القنّاص
صرتُ يافطةً تدِلُّ إلى مشفى الجراحة
كنتُ تهيّؤَ الجندي في المعسكر
صرتُ أغنيةَ الخارجين من المشافي بالسلامة
هكذا غيّرتني امرأةٌ أحبّتني بلا “لأنّي”
امرأةٌ نامَت فوق زَنْدي فلم تكن حروب!
ونجدُ التعبيرَ المتناغم مع الذات، الذي أوجد دلالاتٍ مُكثَّفةً وعميقةً في الصورة واللغة، تجاوزت مجالات التعبير العادية، ممثّلاً تيّاراً جديداً للشعر – إن صحّ التعبير – لينقلَ لنا صوراً مستمدّةً من طفرة التجديد والحداثة التي اتّسمت بالغموض والرمزيّة والواقعيّة الإنسانيّة؛ ليأتي المبدع ومن خلال عمله محاولاً إعادة تشكيل الواقع من خلال إعادة تشكيل اللغة التعبيريّة.
سيلُ القريةِ التهمَ إخوتي
في ما أبي يُصلح المِزراب
وظلّت دموع أمّي تدلِفُ عليَّ من السقف
ها أنا مثلُ قشٍّ مبلولٍ.. أصفرَ وحزين
كلّما كانت رؤية الأديب أكثرَ عمقاً وحساسيّةً وذكاءً كانت أقدرَ على كشف القوى التي تعوق حركة الواقع المطلوب تحقيقه، فالرؤيةُ الشعريّةُ عند الشاعر تتمثّل في محاولته لخلقِ عالَمٍ موازٍ للعالَمِ الماديّ المحسوس الذي نعيشه، ومن هنا تحديداً يتفوّق الشعر في تجديده ليواكبَ العصرَ ومتغيّراتِهِ برؤى إبداعيّة متوافقة، فالتغيّر الدلاليّ يوافق المجتمع، فإذا ما تغيّر المجتمع وتبدّل تغيّرَتْ دلالة اللغة وتبدّلَتْ، كما أنّه يُحقِّقُ النجاح في تأثيره على المتلقّي.
يا هلا.. أهلاً.. تفضّل
السَّفح رحب
والضيق سجّان الصدور
جلسنا على صخرةٍ
واجترحنا الكلام
قال: البلاد مثل قرن خروية
خضراء داكنة، معقوفة، مائلة للسواد
وافقته..
إنَّ المجتمعَ ليس وجوداً مادّيّاً فحسب، كما أنَّه ليس وجوداً فكريّاً أو ذهنيّاً، بل إنَّه هذا وذاك في آنٍ معاً، إنَّه الوجود المادّيّ والوعي به، فهو مادّة وجود وهو فكر يعي هذا الوجود، ويواجهه، ذلك أنَّ البشر يدخلون في سياق إنتاج حياتهم الاجتماعيّة في علاقاتٍ محدّدةٍ لا غِنى عنها، مستقلّة عن إرادتهم، علاقات تُوافق مرحلةً معيّنةً من تطوّر قواهم الإنتاجيّة المادّيّة، والحصيلة العامة لتلك العلاقات الإنتاجيّة تُشكِّلُ بِنية المجتمع الاقتصاديّة، وهي الأساسُ الواقعيّ الذي تنهض عليه بِنيةٌ فوقيّةٌ حقوقيّةٌ وسياسيّةٌ، وهذا يعني أنَّ المجتمعَ يتشكَّلُ من بِنيتينِ: تحتيّة مادّيّة، وفوقيّة ثقافيّة، وبينما تُمثِّل الأولى الوجودَ المادّيَّ أو علاقات الإنتاج الاجتماعيّة، وتحدّد طبيعة النظام الاقتصاديّ السائد، فإنَّ الثانية في نهوضها على الأولى وجدلها معها، تُمثّل البناء العلويّ الثقافيّ؛ أي الوعي الاجتماعيّ مُجسّداً في الفنّ والأدب، والفكر والدين، والتقاليد والأعراف، والقيم والقوانين، وفي غيرها من الأنماط والأشكال الثقافيّة التي تعكِسُ على نحوٍ تفاعليٍّ متداخلٍ الواقعَ المادّيَّ، وتُعبِّرُ عن علاقاته وحقائقه، وتُجلّي الحضورَ الثقافيَّ للخبرة الاجتماعيّة، ولعلاقاتها الناجمة عن نشاط الإنسان وعمله في الطبيعة والمجتمع.
نحنُ في دائرةٍ لا تنتهي!
إنَّهم يستبيحونني حينَ أتحدّث بحرّيّة!
إنَّهم يقنعون الوداعة بالثغاء
ويُروّجون للأرض مهارتها بولادة الذئاب
لا أحبّةَ لمن يموتون في الليل
ولا بيوتَ عزاء لمن هم دون ذلك
حبيبتي:
أنا الآن في هذا العالَم
مثل ذبابة دخلت من نافذةٍ مكسورةٍ
وما تزال تبحثُ عن مخرجٍ
نجدُ أنفسنا والشعر أمام خيارينِ واحتمالينِ: إمّا أن نتّهمَهُ بأنَّه لا معنى له، وأنَّها مجرّدُ رصفٍ للكلمات وبعثرةٍ للألفاظ، ولا نجدُ لها إيقاعاً – إلّا في بعض الشعر الذي قد ينجح في الإيقاع الداخليّ – ليقبعَ في هُوّة الهباء المنثور، أو أن نُحيله إلى تقبّله التأويلَ، وهو تأويلٌ يقعُ تحت تقبّلنا للمعنى، ووجب علينا في الوقت ذاته أن نستحضر العمليّة الإبداعيّة للمبدع وهو يخلُقُ النصَّ، هل هو عملُ اندفاعاتٍ وهواجسَ وتوهّمٍ، أم أنَّه عملٌ حِرفيّ متقطّع ومتّصل، ولها فكرة أوليّة وصورة بدائيّة، وخربشات ومُسودّات تطوّرت إلى القصيدة الأخيرة وبلورتها، ولو أتيح للشاعر أن يُغيّر ويُبدّل ويُقدّم ويؤخّر فيها بعد خروجها للمتلقّي لفعل.
عرشي على الحقل
وقلبي في قِربة الماء
كنتُ طفلاً أحبُّ الحمام
وقرض الكلام
على جانب الدّربِ مثل البذور
تسليتي.. في الكبوش إذا ناطحت بعضها للتزاوج
ضجري غيمُ المغيب.. يُربكني عند الشّفق
يذهبُ بعضُ النقد إلى أنَّ التلقّي هو مناط الحكم على النصّ، والنقد العربيّ بكلّ مصادره المعرفيّة ووسائله المتعدّدة في التعامل مع ضروب الكلام، كان أكثرَ التزاماً بطبيعة العلاقة بين النصّ وأحوال المتلقّي ونوعيّتِها، واهتمّ الفكر البلاغيّ عند العرب بمنازل المُخاطَبين وأقدراهم الاجتماعيّة في النصّ الخطابيّ، فالخطيب “لا يُكلّم سيّد الأمة بكلامِ الأمّة ولا الملوك بكلام السوقة”. ومدار الأمر على إفهام كلّ قوم بمقدار طاقتهم، والحمل عليهم على أقدار منازلهم، وقد نجد الاهتمام كذلك بالأحوال النفسيّة للمتلقّي، وما يكون له من وطأةٍ فعّالةٍ في إصدار الأحكام على النصّ، فالموقف النفسيّ للمتلقّي لا يقِلُّ أهمّيّةً وتأثيراً في مجال الحُكم على النصّ عن الموقف الذي يصدرُ عنه الأديب شاعراً أو كاتباً أو خطيباً، فالعمل الفنّيّ هو عمل مشترك يُسهمُ فيه صاحبُ النصّ بخلاصة التجربة التي عايشها، وتُسهِمُ فيه اللغة بدلالتها الموحية، كما يُسهم فيه الدارس أو المتلقي بخبرته الفنّيّة وذوقه الجماليّ، فالعلاقة بين هذه المحاور تشبه بناءً هرميّاً قمّتُهُ النصّ في لغته ومُعطياته، وقاعدته المتلقي والأديب، وهي علاقة ذهنيّة تفرض نفسها على المتلقي ناقداً أو قارئاً أو مستمعاً، لذا من أهمّ الآثار الناتجة عن مكوّنات النصّ في تفاعلها مع القارئ الانعكاس الجماليّ، والقبض على المعاني والدلالات، والأثر النفسيّ والسلوكيّ الذي تتركه القراءة.
سأربِطُ شال أمّي على خصر راقصة
وسأُعلّق دنّ التهريج على ظهرها
سأروي عظيم جدي على مومسٍ في البار
وسأسبحُ في دموع فتاةٍ هجرتها هكذا.. للتسلية
سأبولُ في القصائد.. وأبكي في المرحاض
هكذا أُخفي هشاشتي
ثم تُعيد البلديّة عطاء الصرف الصّحّيّ
وترتاح المخافرُ من خُططها العشريّة للتخلّص من الشعراء
بين أصناف الشعر نجدُ الرأيَ المُتوازنَ لدى بعض النقّاد الذين ذهبوا إلى أخذ موقفٍ وسطٍ بينَ الرافضين رفضاً تامّاً، والمؤيّدين للشعر الجديد، في أنَّه رافدٌ من روافد الشعر العربيّ، وأنَّ الفيصل في هذا وذاك هو “تلقّيه” والفوز بالتأثير على الذائقة، والحضور الذي لا يمكن أن نشيحَ عنه، فمن يُمكنه أن يرفُضَ شعر السيّاب وأدونيس، وكيف ننسلخُ من قصائد زهير والجواهري، فالشعرُ ليس إيقاعاتٍ وأوزاناً، ولا التزاماً بعدد التفعيلات الوزنيّة المنقسمة إلى شطرين والملتزمة بقافية واحدة، بل هو الأسلوب الرفيع الذي تكفيه سمةٌ من تلك السِّمات التي تخُصّ الوجدان والنفس لما تتلمّسه من صدقٍ، أو توتّرٍ، أو لوعةٍ، أو ألمٍ، من شأنه أن يُلزم المتلقّي بالتعاطف والتأثّر.
وعرّفَ النقّادُ العربُ فكرة الإطار الثقافيّ للشاعر، أو التكوين الشعريّ، وكانت عندَهم بمثابة الروافد التي يستردفها الشاعر إذا أراد أن يقرِضَ الشعرَ، فإنَّ ثقافة الشاعر وسعة قراءته وتجاربه هي النبع الذي يرفِدُ إبداعه، وكما يرى ابنُ رشيق أنَّ المفاضلة بين الشعراء تُقاس بما حصّله الشاعر من هذه الثقافة اللغويّة والتاريخيّة، ومن علوم ومعارف.