بندقية “عويدة” (1-2)

بندقية “عويدة” (1-2)


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    “آمنة الربيع”
    “كاتبة مسرحية عمانية”

    لم أنتبه إلى الإهداء الذي ذيلته لي الكاتبة شريفة التوبي على روايتها البيرق (حارة الوادي) الصادرة مؤخرا عن دار الآن ناشرون وموزعون في 2022م وصممت الغلاف الفنانة التشكيلية بدور الريامي؛ إلّا وأنا قد شارفتُ على الانتهاء من كتابة هذه القراءة. كنتُ قد فرغت من قراءتها منذ شهور وكان أول ما خطر إلى البال مقولة تُنسب إلى أنطوان تشيخوف، تدور حول نظرته إلى مفهوم القص والأحداث الزائدة عن الحاجة. استرعى انتباهي في إشارة تشيخوف السؤال الذي طرحته على نفسي بعد قراءة الرواية: هل هناك جزء ثانٍ لها؟ لأن أحداث البيرق لم تنته بعد، فما المصير الذي ستؤول إليه عويدة وميمونة وصالح وأحفاد حمد بن ناصر والعالم العجائبي الذي نسج خيوط العمل؟
    “الحكاية التي لم تكتمل بعد…” آخر سطر في إهداء شريفة التوبي على صفحات الرواية. ربما إذا كنتُ قد انتبهتُ لهذا السطر لكان محتوى هذه الورقة قد مضى في اتجاه آخر، ومن حُسن الطالع أنني لم أنتبه أيضا؛ فالرواية المكوّنة من (58) فصلا تفتتح بتوضيح مألوف: “لا وجود لشخصيات الرواية إلاّ في مخيلة الكاتبة، وإن استُقيت بعض الأحداث من وقائع حدثت في زمنها ومكانها، وما عدا ذلك فسردٌ أدبيٌّ محضّ”، ما يدفع شهية النقاش حول المسؤولية التي ينوءُ المؤلف بحملها وهو يسعى إلى بناء عوالم تتنزّل في منزلة المخيلة، يَلي صفحة الافتتاح إهداء له دلالته تُهديه الكاتبة “إلى علي بن حمد. في زمن كانت فيه الشجاعة رجلًا يقال له وَلد جريدة.” وهذا الإهداء سيصبغ مجموع صفحات الرواية البالغ عددها (429) صفحة، فأجواء القص، تأخذنا صعودا باتجاه بعض قضايا النقد المتجددة، منها: إحلال مصطلح التخيّل التاريخي مكان الرواية التاريخية، وإحلال البطولة الجماعية الشعبية بما رسمته لها المؤلفة من أفعال أو صفات أو أقوال محل البطل الشعبي، ويُعاضد هذا الافتتاح – وصولا إلى نشيد التَّيمينَة في الصفحة الأخيرة للرواية- صفحة تضمنت أبيات من فنّ العازي التقليدي تقول:
    “قُم بن جريدة من الممَات
    واحي عُصورًا ماضيات”
    وفن العازي أحد فنون البيئة الشعبية في مجتمعات الخليج العربي، ويشتهر الفن في عُمان ويؤدى بالسيف والترسْ، كما يُعد من فنون الاعتزاز والمدح والفخر ويقتصر تقديمه على الرجال، وتوظيف فن العازي مع كلمات نشيد التَّيمينَة لمؤشر دال على الرغبة المبطنة لإحياء العصور الماضيات بالعلم لا سواه. وفي هذا الإطار البيئي المنتمية شخصياته إلى التاريخ وحكايات البطولة سيكون لكلمات (عويدة) الشخصية الرئيسة في الرواية دلالتها ومغازيها؛ عندما قالت لخديجة زوجة ابنها: “الشجاعة تُورَّث والأخلاق تورَّث.” وهي إشارة استباقية إلى الأزمنة القادمة لِما يمكن تسميته تجاوزًا باستخلاص العبَر، فهل ستظل الشجاعة تورِّث والأخلاق، وهل سيكون فيها رجال يُشبهون أبطال الرواية؟ كأن الشجاعة والأخلاق سيكونان أشدّ تفلتًا من الإبل في عُقُلها! سأتحرك في قراءتي حول ثلاث نقاط:
    حول مفهوم التخيّيل التاريخي
    يذهب كورنيّ، كما لاحظ هاردي في كتاب فن الشعر لأرسطو نقلا عن ترجمة عبدالرحمن بدوي “أن الحقيقة التاريخية ذريعة لإضفاء طابع الاحتمال على الأحداث الجارية في المسرحية”، ونحن هنا إزاء عمل روائي؛ فهل يسأل الباحث المعاصر عن الحقيقة التاريخية في عمل تخييلي؟ وقياسا على السؤال الأقرب إلى الفخ: هل حارة الوادي مكان حقيقي؟ وهل أحداث الرواية بشخصياتها وألفاظها ومكونها النفسي والاجتماعي والمادِّي كانت موجودة في التاريخ؟ بالقدر الذي توخت فيه الكاتبة الحذر من الوقوع في مباشرة التاريخ أو التوثيق له، مستندة إلى عدم وجود شخصيات الرواية إلاّ في مخيلتها؛ فإنّ كُّل ما سعت البيرق إلى تقديمه رغم استقاءها لأحداثها من زمن ومكان معلومين في الماضي هي سردٌ أدبيٌّ محضّ. في كتابه المرجعِّي (التخيّل التاريخي: السرد، والإمبراطورية، والتجربة الاستعمارية) يُنظّر الناقد الدكتور عبدالله إبراهيم لهذا المصطلح بهذا التعريف: “التخيّل التاريخيّ هو المادّة التاريخية المتشكّلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقيّة والوصفيّة، وأصبحت تؤدّي وظيفة جماليّة ورمزيّة، فالتخيّل التاريخي لا يحيل على حقائق الماضي، ولا يقرّرها، ولا يُروّج لها، إنما يستوحيها بوصفها ركائز مفسّرة لأحداثه، وهو من نتاج العلاقة المتفاعلة بين السرد المُعزّز بالخيال، والتاريخ المُدعم بالوقائع، لكنه تركيب ثالث مختلف عنهما-ص5”
    وانطلاقا من التركيب الثالث، فالكاتبة لا تتوسل عاطفة القارئ بالجنوح إلى التاريخ، لكشفه وتفتيته وسماع أصوات حيواته، بقدر توسلها بالسرد والنسج والتخييل ومفارقات المواقف التي حصلت مع الشخصيات -خصيف نموذجا- كمرتكز يُبعد كثيرًا إشكالية أصوات الرواية التي تشتبك مع التاريخ؛ إما بإدانته أو الاستسلام للوثيقة الرسمية، وعندئذ سيحُل نَظرنا إلى أسباب عنونة حارة الوادي بذلك العنوان عنونة مفهومة ومقبولة؛ تمزج أرض الواقع مع سماء الخيال، يقول حمد بن ناصر فيما تستعيده عويدة من مواقف له تقع ما بين الحُلم واليقظة: “أرعى النجوم يا عويدة، حتى النجوم تحتاج من يرعاها-ص9″، ليجري بعد ذلك وبواسطة ثراء هذا المزج تَشكّل الحارة وتفاعل أصوات الناس وألسنتهم بلهجات شفافة متوسطة، وموزعة بانتباه في الرواية بها يعبرون عن معتقداتهم ومخاوفهم ومطامعهم إلى جانب رؤيتهم للعالم ومواقفهم من الوجود في حارة الوادي بلغة سردية بسيطة توظف آيات من القرآن الكريم والأمثال والأغاني الشعبية الغائرة في القِدم تتغلغل كلّها في روح القارئ وذهنه دون صعوبة.
    ضمن تجليات المدرسة الواقعية الاجتماعية التي تُركز على ضرورة الوعي بسيرورة الزمن وحركة المجتمعات وصراع الطبقات البسيطة مع قوى يُمكن أن تتزعمها قوى اجتماعية ذات نفوذ عليا، أو قوى أجنبية تتحكم في توجيه مصائر المجتمعات؛ عالجت شريفة التوبي في البَيرَق مسارات أجيال تتزعمها الشخصية الرئيسة “عويدة”، وقد تكون عويدة مثالا لجدات أخريات في العالم. إذّ يزخر السرد الروائي بهن وبقدرتهن على تحمّل مشقة التبليغ بواسطة الحكي. عويدة المرأة النموذج الإنساني التي تتكرر في حياة كل أسرة عمانية أو خليجية تتميز بصفات نموذج يستطيع أن يبث في الآخرين قيم القوة، والصبر على المكاره، والتحدي، والجلَد والاعتداد بالذات، والكبرياء، والبطولة، في مقابل مشاعر داخلية دفينة تسكن في أعماقها كالغَيرة والضعف والحزن والانكسار.