ناظم ناصر القرشي/ العراق
(لأننا نتأسّس في الشعر، فلدينا الحقوق على الكلام الذي يشكّل ويفكّك الكونَ) غيوم أبولينير.
الشاعرة غدير حدادين في ديوانها (سأكتفي بعينيك قمحًا للطريق) والصادر عن دار «الآن ناشرون وموزعون» في عمّان ذهبت إلى الجانب الأقصى من الشعر واستحضرت وحيها التشكيلي شعريّا بلغة وامضة وغاية في الإشراق من حيث جمالها وقوّتها التعبيرية التي تفضي إلى رؤى شعرية فريدة، أضفت عليها معاني وسمات روحية
فالعنوان (سأكتفي بعينيك قمحًا للطريق) والمستل من قصيدة (عيناك) هو ليس عتبة او دليل لما بعده فحسب وإنما هو لوحة تشكيلية بامتياز والاكتفاء هنا هو الاقتناع به والاستغناء عما غيره، فالشاعرة اقتنعت واستغنت فكتفت بعينيه قمحا وبدأت الطريق.
كل صورة تعتبر فكرة
والسؤال هو؟ هل بالإمكان تحويل القصيدة الى لوحة فنية وهل يمكن ان تسمح قوانين الكتابة بذلك وهل يمكن تجاوز الحدود المادية رغم اننا نقرأ عبر الحبر الاسود الذي كتبت به القصيدة ألوانا مكتوبة وموسيقى
فالفكرة العامة للديوان تدور حول تشكيل هذه اللغة واكتشاف أسرارها وشفراتها عبر السطور وتدوينها شعريا، هنا في عالم الشعر يأخذ فن التشكيل دوره في رسم الصورة، حيث تنحل الحروف زيتا على ورق القصيدة لتحيلها الى لوحة، وسيشعر المتلقي أنّ كلّ جملةها هنا تمر بامتحان التشكيل وعليها أن تعتمد على نفسها ليس بالتعبير فحسب ولكن ايضا في إعادة ابتكار نفسها، وأن تمنح المتلقي في سياق القراءة انطباعا تأملي ووعيا جماليا متساميا
ففي قصيدة (أغنية في حلم) نجد خلاصة الحلم تتشكل في هذه الأغنية كما تكشف عنه لغة النص فالكلمات تعبر بأقصى درجات الشعور التي مرت بها فهي قريبة من الاماني، فعلى وجه اليقين، إن الشاعرة قد مرّت فعلا بلحظات التجلّي أو التسامي بتفاصيلها، وهي تستعيد دهشة تلك اللحظات حتى الذهول، وهذه العبارة الدقيقة التي تستقبل اللحظة وتحتويها (للسع الحنينفي أول الخريف المقبل) تعبر عن ذلك:
أغنية في حلم…
غنيت لعسل عينيك،
للسع الحنين
في أول الخريف المقبل،
غنيت لثورتي الأولى
لجديلة ضمت عمراً من اشتياقي
غنيت للسواقي التي رافقت
طفل أحاديثنا والظلال..
غنيت لي و لكْ ..
و لظلٍ سيعبر ذات لحنٍ
كالمَلَكْ !
شعر بنوايا التشكيل ورسم الموسيقى قصيدة «الكمان» نموذجا
في هذه القصيدة يمكن رصد العلاقة بين الموسيقى والفن التشكيلي والحركة ايضا وكيف يتبادل الكمان النغم مع المقاعد الفارغةبلغة شعرية مؤثرة في لوحات النص:
الكمان…
للكمان بحة تحاكي المقاعد الفارغةْ،
وللقناديل حكايا
نسجتها ذكريات المكان
حيث كان المساء وحيداً
يعانق جدران الصمت،
كل شيء كان هادئا
ينتظر منيأن أكتبَهْ ..
الشارع المشققُ الجبين
والعابرون نحو جديدهم
لم يتنبهوا
للظل قرب النافذة،
كان كمانٌ ينادي قمراً جريح!
هذه القصيدة مليئة بالحركة فعازف الكمان قرب النافذة وموسيقاه التي تمر عبر الضلال وتتصاعد نحو قمر جريح فتتحول الى نداء علوي وضوء القناديل الذي يؤسس لموسيقاه عبر تمايله، العابرون وحركتهم عبر الشارع الذي نلتمس انسانيته عبر جبينه المشقق.
كل هذا يدعو الشاعرة الفنانة التشكيلية لان تشكل او ترسم لوحة القصيدة التي تتسع وتصبح أكثر خصوبة خلال الحركة الابداعية للموسيقى التي تحتوي القصيدة و تنساب في جميع الاتجاهات، وسنجد أنفسنا في مواجهة الوحدة تغمرنا الوحشة ونحن نتأمل هذا التشكيل البصري للمقاعد الفارغة في المساء الوحيد الذي يعانق جدران الصمت سنجد أن جاذبية الإيحاء تأخذنا الى اللحظة ذاتها في القصيدة.
شعريا استطاعة الشاعرة غدير وببراعة أن تجمع موسيقى الكمان التي تحاكي المقاعد الفارغة وموسيقى الضوء وحركة العابرين بنوايا التشكيل.
وسنجد امتدادات هذه القصيدة في قصيدة (بقعة صغيرة) حيث المشهد يكون قريبا جدا ويلامس القلب تماما كأنه حوارية وجواب من الضفة المقابلة:
بقعة صغيرة…
أُحادث الأماكنَ الشَّاغرةَ عنكْ ..
أهذي بك للمقاعد الغافية عند شجن الشبابيك،
أقترب منك على بعد.
تشكيل تجريدي لقصيدة (حنين من سلال الماضي) نموذجا
وفي قصيدة (حنين من سلال الماضي) هذا النص. فيما يحمله في جوهره يتعدّى كونه محاولة لاختزال اللحظة بل ذهبت الشاعرة الى أبعد من ذلك إذ نها حاولت، بقصد منها أو دون قصد، النفاذ إلى آنية تلك اللحظة واعتبارها زمنا مطلقا، حيث نجد أنّ هذا الحضور يتكاثف أكثر فأكثر داخل المشاعر التي تحملها الكلمات:
حنين من سلال الماضي…
بين نقطةٍ سوداءَ وزاويةٍ حادة التقينا عند مفترق الطريق..
تاهت
خطواتنا المكسوَّة بالضجرْ،
وانحنى الوقت بيننا
دون انتظار ..
قطفنا الحنين من سلال مُعبَّأةْ،
ارتوينا من كؤوس ثملة بالعطش،
وتركنا رحيلنا حكايةً يلوكها القمرْ..
ففي انعطافة حادة سنجد أن الشاعرة تتحول الى التجريد في هذه القصيدة، فبلغة تكوينية بصرية خاضعة لمنطق الرياضيات في اللغة مررت ما شعرت به عبر هذه اللغة، المتماثلة في شكلها التناظري مع انحناء الوقت، بين نقطة سوداء وزاوية حادة التقينا هذه الصورة تذكرنا بالمصور الصيني (فان هو) واستخدامه المتقن للظل والضوء.
وأيضا هذه الصور (ارتوينا من كؤوس ثملة بالعطش) التي تمنحنا فورا إحساسا باللامتناهي فالارتواء اكتمال لكن العطش حلم واسع المدى الذي يذوب فيه كل شيءبانتظار حدوث شيء، أو انبثاق شيء من الفراغ.
لغة العيون شعرا قصيدة «عيناك» نموذجا
لغة العيون هي كلام القلب وأبجديته المستغرقة دائمًا في مطلق حضورها، هذا اللغة التي تختزل الأماني والأحلام في نظره ولا نستطيع ان نصفها بعيدًا عن ذلك، فهي تشكل قصيدتها بناءً على ما تلهمها به اللحظةُ، فلغة العيون لها رموزها وأبعادها وتأويلاتها
تقول الشاعرة في قصيدة «عيناك»:
«ليتني أكتبكَ فتقرأُني من دون ضبابْ
ليتني أعيشُ الزمنَ بذكرى واحدةٍ وأعوامٍ منكْ
ليتني أُعانقُ أسرابَ الحزنِ التي تمضي معَكَ دوني!
خذْ شيئاً من حنيني لتلمسَ وَحشةَ الانتظارِ
وبرودةَ المساء!
خذْ من شُطآنِ الغيابِ
قُبَلاً لم ترحلْ معَها مراكبُ الذكرياتْ ..
خذْ وردَ اشتياقي وتشمم عطرَ أطيافكَ الذائبةْ
خذ وجعي منِّي ولا ترحلْ،
سأكتفي بعينيكَ قمحاً للطريقْ..»
وفي قصيدة «أكتب لعينيك…» تقول:
أكتب لعينيكَ التي سافرتُ إليها سراً
ولم أعد حتى الآن!»
أبدعت الشاعرة غدير حدادين التي (تستهويها الطريق المؤدية الى القصيدة) في فتح فضاءات جديدة وابتكار لغة تشكيلة خاضعة للإيضاح البصري، هذه اللغة لها تركيبتها الخاصة في تكوين الجمل، وهذا يعبر عن شغفها بالعبارات التي تختزل الابتكار والخلق فهي تحاكي وتماثل الانفعالات واللحظات العابرة في القصيدة وتشكيلها فتومئ برومانسية الى حيث تشير بوصلة الابداع.