“وكالة الأنباء العُمانية”
يسعى كتاب “خارج الأسوار” من تحرير الناقد الأدبي العُماني مبارك الجابري، إلى فتح أفق للدراسات الثقافية في الدرس العربي، خاصة الخليجي منه، بصفتها مجاوزةً للأسوار، أي بما هي دراسات تتخطّى القيود المنهجية التي تحد المقاربة وترهن مادة التحليل لأدوات المنهج، وبما هي في الآن نفسه خروج على التسوير الأكاديمي للاختصاصات، الذي يعزلها عن بعضها بعضًا.
ويضم الكتاب الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” أوراقًا في الدراسات الثقافية قُدِّمت ضمن الملتقى الشهري “صالون الأربعاء” ، من إعداد الباحثين: د.محمـد بوعـزة، ود.وحيد بن بوعزيز، ود.عبدالله إبراهيم، ود.إدريس الخضراوي، ود.فاتحـة الطايب، ود.محمـد الشحـات، ود.علي أحمد الديري.
وهذه الدراسات، كما يوضح الجابري، تتيح، بسبب حريتها المنهجية واتساع ممكناتها التحليلية، قدرةً للباحثين على الولوج بالتحليل العميق إلى كثير من المناطق غير المضاءة بالدرس في العالم العربي، خاصة الخليجي منه، بما يحويه من تعدد ثقافي، وعمق تاريخي مؤثر، وتغيُّر ديموغرافي متسارع، إضافة إلى التحوّلات الجذرية الحاصلة بسبب الطفرة الاقتصادية التي أوجدها النفط.
وتحاول هذه الدراسات التي جاءت في 374 صفحة، أن ترسّخ المسار في الاشتغال البحثي بعُمان والخليج العربي، والإسهام في رفد المكتبة العربية بما تحتاجه لإعادة إنعاش هذا المسار وتوسعة مدوّنته التحليلية. وقد رُتِّبتْ الأوراق في الكتاب وفق الخطة الزمنية لبثها المباشر على هيئة محاضرات ضمن الملتقى.
يناقش د.محمد بو عزة (المغرب) في ورقته المسارات المختلفة والإبدالات التي تعرّض لها مفهوم الدراسات الثقافية في سيره المستمر نحو التوسع، موضحًا صعوبة الإمساك بمفهوم هذا الحقل البحثي، كما هي صعوبة الإمساك بمفهوم “الثقافة”، ثم يقدم جملة محددات يمكن للقارئ حين تتبُّعها أن يخرج بمفهوم للدراسات الثقافية له قدْر من الوضوح.
أما ورقة د.بوعزيز (الجزائر)، فتركّز على التحاقل الحاصل في هذا النوع من الدراسات التي تتجاوز فكرة التخصص، ويبيّن الباحث فيها طبيعةَ الإشكال الذي يجعل المفهوم مائعًا عند بعض الباحثين الذين يحاولون الاشتغال عليها، بما يتقصدونه من انتقائية في التمرجع، إلى الحد الذي يجعلهم أحيانًا يجمعون في مرجعياتهم المنهجية بين مراجع لا تجتمع عادة معًا، ثم يقدم في القسم الثاني من ورقته نموذجًا تحليليًّا بالاشتغال على ما يدعوه بـ”ذاكرة الاعتراف” في ارتباطها بالحقبة الاستعمارية والاستعمار المعاصر.
وفي الورقة الثالثة، يقدّم د.عبدالله إبراهيم (العراق) مفهوم “السردية” في علاقته بحقل الدراسات الثقافية، بما هي انفتاح على ممكنات التأويل للظاهرة السردية، تتجاوز الانغلاق على التحليل اللغوي الذي يتعمّد إهمال جوانب شتى يمكن للنصوص قولها، وبالصورة التي تجعل المقاربة السردية أوسع من مجرد التحليل الوصفي للنصوص، بل تُنزلها إلى سياقاتها التي تسهم فيها، فتقرأها موصولة بتلك السياقات، بصفتها “ابنة الدنيا” على حدّ تعبيره.
ويقدّم إبراهيم في ورقته خلاصة مركّزة لاشتغاله على مفهوم “السردية”، كاشفًا عن العلاقة التي جمعت بين ممارسته إياها وبين التوجه البحثي الذي تشتغل عليه الدراسات الثقافية.
من جهته، يناقش د.إدريس الخضراوي (المغرب) وجود الدراسات الثقافية في الخطاب النقدي العربي، مبتدئًا بعرض مركّز لأبرز التحوّلات في النقد الغربي وما سايرها من تبدّل في المفاهيم، وتأثير ذلك في الثقافة العربية عبر الأدب والدراسات الأدبية بصورة خاصة.
ثم يدخل الخضراوي إلى مفهوم الدراسات الثقافية عبر مساءلة مفهوم الأدب بوصفه موضوعًا لها، وانتقالها إلى النقد العربي من خلال جملة من الكتابات المؤسسة فكريًّا لهذا الحقل البحثي، بصورة واعية أو غير واعية؛ لكونها كتابات يمكن قراءتها بصفتها توطئة لهذه الدراسات، وما رافق ذلك من تمنّع في الساحة النقدية العربية يقوده إشكالُ الترجمة إلى العربية.
ويقف الخضراوي في ورقته أيضًا على جملة من الإسهامات التنظيرية لعدد من النقاد العرب الذين حاولوا توصيفها منهجيًّا وممارستها عربيًّا، مع تعدد مداخلهم إليها، ومع ما رافق بعض إسهاماتهم من جدل.
أما د.فاتحة الطايب (المغرب)، فتناقش في ورقتها مفهوم الدراسات الثقافية من زاوية الأدب المقارن، محاولةً الكشف عن العلاقات بين الحقلين، جامعةً بينهما عبر جملة من المبررات التي سوّغت بها عدَّها الدراساتِ الثقافية أدبًا مقارنًا جديدًا.
وتبيّن ورقة الطايب جملة من الملامح الجامعة بين النقد الثقافي والدراسات، وتعرّج على الاهتمام الأكاديمي العربي بهذا الحقل البحثي، مستشرفةً أفقه المستقبلي، في سياق مناقشتها لإسهام النقد العربي في الدراسات الثقافية عبر تجارب مؤثرة عالميًّا، كتجربة عبدالكبير الخطيبي التي عرضت الطايب خلاصةً مركزة لها.
ويتناول د.محمد الشحات (مصر) فكرة السعي إلى وجود نظرية نقدية عربية، مبررًا موقفه من هذا الطرح، مشيرًا إلى اشتغال النقد العربي على السردية اشتغالًا يقدم نفسه بديلًا متاحًا للبحث عن نظرية عربية في النقد، بصفته اشتغالًا حثيثًا يؤسس لنفسه مرتبطًا بالسياق العربي.
ويتتبع الشحات في ورقته علاقةَ الدراسات الثقافية والنقد الثقافي بالنظرية، مفهومًا وتأصيلًا، بصورة يقدَّمان فيها جنبًا إلى جنب بعدد من المواضع، وفق ما تتيحه أصولهما المعرفية، إضافة إلى جملة المرجعيات التي تجمعهما، ثم يختم ورقته بوقفة مع الاشتغال النقدي على هذا الحقل في سلطنة عُمان، بما يمكن أن يفتح مجالًا لشقّ مسار واضح المعالم له.
من جهته، يقدم د.علي أحمد الديري (البحرين) مقاربة تطبيقية تنطلق من اهتمام الدراسات الثقافية بتفكيك خطابات الهيمنة، فاتخذ من “الإسناد” موضوعًا لاشتغاله؛ لما له من هيمنة على نشأة جملة من الخطابات الدينية، ولما له في الآن نفسه من قدرة على التأثير في الثقافة الإسلامية، فيحاول الديري تفكيك خطاب التأسيس لهذا العلم، من زاوية تنطلق من المسارات الأيديولوجية التي تتسرب داخل الخطاب وتحدد منتجاته.
ولا تدعي هذه الدراسات الثقافية، كما يشير الجابري في مقدمته، إيجاد حلول جذرية لتعقيدات الواقع وتحدياته، بل إنها “لا تكاد تتغيّى ذلك، إلا بالقدر الذي تتيحه من قدرة على التحليل والتفكيك، وقول ما لا يقوله غيرها من المقاربات، بما لها من قدرة على تخطي الأسوار، وبالقدر الذي يتاح لها من التحرك الحر وفقًا لممكناتها”.
ويتساءل الجابري بالنظر إلى الارتباط الجذري بين الدراسات الثقافية وما بعد الحداثة؛ هل يمكن بالفعل الحديث عن ما بعد الحداثة في العالم العربي، وبالتالي الحديث عن إمكانية لتحقق مسار بحثي رصين للدراسات الثقافية؟ ويجيب على ذلك بقوله إن العالم العربي ما يزال في كلا نموذجيه (النهضوي الذي افتتح أفقه ثم انطفأ في المراكز العربية، والخليجي الذي يتسارع فيه توجه التحديث المادي بصورة غير منسجمة مع تحديث الوعي)، بعيدًا عن مرحلة ما بعد الحداثة، بما هي خروج على نمذجة الوعي ومركزية القيم، مشيرًا إلى أن الحديث عن مرحلة ما بعد الحداثة في مجتمعات يصعب استيعاب تَمكُّنها من قيم الحداثة نفسها، أمرٌ “لا يخلو من مجازفة”، إن جرى استيعاب الحداثة وفق مفهوم يتمركز على مجاوزة القديم في وعيه وقيمه وأيديولوجياته.