مجموعة محمد عارف مشة تتكون من إحدى وثلاثين قصة قصيرة، متنوعة الموضوعات والهموم، جاءت على شكل مشاهد وصور واقعية مألوفة.
نماذج سلبية موجودة
صورة المعلم لم تأتِ من فراغ، فالكاتب هو ابن المدرسة طالبًا ومعلمًا
قصة “ذاكرة المخيم” تصور معاناة المعلم الملتزم صاحب الرسالة
تتكون مجموعة “عصافير المساء تأتي سرًا” من إحدى وثلاثين قصة قصيرة، متنوعة الموضوعات والهموم، جاءت على شكل مشاهد وصور واقعية مألوفة عن المخيم والمدرسة والأطفال والحارة والسوق والحافلات والقصف والقتل والتشريد وغيرها، وكان للمخيم الفلسطيني، وأطفال المخيم النصيب الوافر منها، وتتناول هذه المقالة صورة المعلم في قصص المجموعة، بشقيها الإيجابي والسلبي، لما لهذه الصورة من أهمية، خاصة وأنها لم تأتِ من فراغ، فالكاتب هو ابن المدرسة طالبًا ومعلمًا.
في القصة الأولى «ذاكرة المخيم»، يدخل المعلم الجديد الصف، ويبدأ كعادة الجدد بإلقاء أسئلة عامة، بهدف التعرف إلى طلبته؛ يسأل أحد الطلبة عن اسمه، فيجيبه متعلثمًا، ويسأل آخر، لم أتى إلى المدرسه، فيجيبه لأن أباه أراد ذلك، وعن معنى المخيم، فلا يجيبه أحد، وعن الخيمة، ومتى يسكن المرء الخيمة، فيحصل علىى إجابات بائسة، ثم يسأل عن خيمة الفلسطيني، فيصدم مما يسمع، وتتعمق صدمته عندما يسأل عن فلسطين، ومن شرد الفلسطينيين، فيسمع من الطلبة إجابات تميته بالجلطة، ففلسطين تقع في الصين، والفلسطينيون العرب قتلوا اليهود وشردوهم من أرض إسرائيل!
تصور هذه القصة معاناة المعلم الملتزم صاحب الرسالة، وما يعانيه عندما يصادف جيلًا لا يعرف شيئًا، فهو يقاد إلى المدرسة بالسلاسل، ولا يعرف أبجديات قضيته الأولى، بل والأدهى أن الحقائق مشوهة ومعكوسة عنده، ففلسطين التي على مرمى حجر تقع في الصين أو عند البحر الأسود، وهو طفل المخيم المشرد يظن أن أسلافه هم من شردوا اليهود من أرضهم، فكانت نهايته الموت جلطة.
تقرع هذه القصة أجراس الخطر، فالأجيال الفلسطينية الجديدة في الخارج، مغيبة -في معظمها- عن قضيتها، لا تعرف شيئًا عنها، بل وملئت عقولها بمعلومات خاطئة مشوهة بسبب انحراف مسارات القضية الفلسطينية، بفعل الإعلام الموجه، وسطوته وعبثيته، وقلبه للحقائق، وإشغال الجميع بما يكفل نسيان قضيتهم وإهمالها، والقناعة أنهم معتدون أساسًا، وما يجري لهم هو جزاء أعمالهم بحق شعب إسرائيل المظلوم.
محمد عارف مشة
يعاقب المعلم بالضرب على التقصير في أداء الواجبات في قصة «سيل الزرقاء»، والمدير يعزز الإنجازات، فالطفل الذي اصطاد سمكة من سيل الزرقاء، احتفظ بها في مرطبان، ليفتخر بصيده أمام معلميه وطلاب مدرسته، وتراوده أحلام اليقظة: «نمت تلك الليلة وأنا أحتضن المرطبان في فراشي، وأمني النفس بشهرة واسعة في الصباح، وبأني سأدخل ساحة مدرسة المخيم مرفوع الرأس، يلقي عليّ طلبة المدرسة تحية الصباح، وسيقدم مدير المدرسة تهنئة لي من خلال الإذاعة المدرسية، ولن يضربني معلما الحساب والإنجليزي على تقصيري».
وكل من تعلم في المدارس قبل ثلاثة عقود أو أكثر لا بد يتذكر اقتران التعزيز والتعزير، وبمبالغة في العقاب البدني من قبل كثير من المعلمين، وخاصة في مدارس وكالة الغوث/مدارس المخيمات، وربما يعود ذلك إلى إيمان المعلمين بأن التعليم هو سلاح الفلسطيني الأقوى الذي يملكه، والذي يستطيع أن ينتشله من واقعه البائس وفقره المدقع وظروفه القاسية في المخيمات، مع وجود قلة كانت تمارس ساديتها بعيدًا عن أي حسن نية.
ولا يختلف الأمر في قصة «لست وحيدًا»، فالضرب من المعلم، يقابله ضرب في البيت للأسباب نفسها، فالتقصير لا يتسامح به على الإطلاق، ويستحق المقصر ما يناله من عقاب حتى لو كان الأول على صفه: «على الرغم المنافسة الشديدة التي كانت بيني وبين محمد على الترتيب الأول في الصف، وبالرغم من المشاجرات التي كانت تنجم بيني وبينه على فرق علامة واحدة، كان سببًا لي بــ(علقة) من أمي لأني تشاغلت ذات يوم عن القيام بواجباتي المدرسية والذهاب معه؛ ما أثار معلمنا في الصف الثاني أساسي أن طلب مني نسخ الدرس مائة مرة، فعجزت يداي عن إكمال المهمة، فكانت في اليوم التالي لــ(علقة) دسمة من المعلم، وما جرؤت على إخبار أهلي. سرعان ما اكتشفت أمي – رحمها الله – آثار ضرب العصي على جسدي، فسألتني عن السبب، فكانت لي علقة أخرى لتقصيري في المدرسة وانشغالي بالخروج مع محمد والسباحة في مجرى الماء الإسمنتي». فعقاب المعلم لم يكن ضربًا فقط، بل بنسخ الدرس مائة مرة، ولعل هذا من أهم أسباب كره كثير من الطلبة للتعليم وفشلهم، وربما هروبهم من المدارس.
يخفي أحد العملاء العرب وجهه بكيس في قصة «طوبى لك يا عمان»، حيث يتقصد الإشارة للمعلم خالد والشيخ رضوان لقتلهما من قبل جيش الاحتلال، أمام الحشود المذعورة الهاربة إلى الأردن: «أنت… أشار صاحب الكيس نحو المعلم خالد، وأشار للعساكر أن يطلقوا الرصاص صوب عيني المعلم خالد. وأنت.. أشار صاحب الكيس نحو الشيخ رضوان وقال اقتلوه».
ولا عجب أن يخص العميل المعلم والشيخ بالقتل، فهما مصدرا الوعي والتنوير وتنبيه الناس إلى خطورة ما يحدث، وقتلهما يعني إخماد الأصوات المحرضة التي تحث الناس على المقاومة والتحدي وعدم القبول بالأمر الواقع.
يقول الطفل في قصة «حين بكت أمي»، يصف مشهد فرحته التي لم تكتمل: «خرجت من باب المدرسة راكضًا لاهثًا، فرحًا بوسام وضعه المعلم على صدري، مكتوب بخط واضح وجميل. وصلت البيت، دفعت الباب الخشبي، ألقيت الحقيبة خلف الباب، ركضت باتجاه (حوش) الدار، ناديت فرحًا بأعلى صوتي على أمي». وبحث عن أمه، فكافأته – وهي تبكي حزنًا – بقرشين ونصف بمقدار ما معه؛ ليكمل شراء كرة القدم كما وعده أبوه، فلما ذهب ليشتريها، عاد حزينًا خائبًا لأن ثمنها ارتفع قرشًا. وكما أن التقصير يقابل بالعقاب، فإن الإنجاز يقابل بالمكافأة والتقدير من المعلم والبيت، حتى تكتمل الدائرة بتناغم، وتسير حياة الطفل في طريق واضحة المعالم.
المخيلة الواسعة تكذب لتنجو ولا تنجو. إنه الحلم بالتمرد والثورة والخلاص من بطش بعض المعلمين وقسوتهم غير المبررة
في قصة «يوم دراسي»، وفي المشهد الأول منها، يقف المعلم على باب المدرسة، يحمل عصا طويلة، ليعاقب المتأخرين عن طابور الصباح الماطر، وعندما يستلم الطالب حصته من الحليب، لا يعجبه مذاقه، فيسكبه في مجرى صغير، فيتلقى ضربة عصا تهوي بين كتفيه، ويملأ له المعلم كوبًا آخر يتجرعه متألمًا.
وفي المشهد الثاني، يعاقب المعلم بصفعة مدوية طالبًا ينطق كلمة أرنب بشكل خاطئ «أنرب»، دون أن يعرف الأسباب، فالعقاب سابق لأي تحقق أو إجراء علاجي.
في المشهدين، ثمة قسوة وشدة لا تتفقان والسلوكيات التربوية التي تتطلب معرفة الأسباب أولًا، فلكل تصرف من الطالبين مبرر معقول بلا شك. فلا يمكن أن يسكب الطفل الحليب لو وجد طعمه مناسبًا، ولن يصر الطفل الآخر على نطق كلمة أرنب بشكل خاطئ عدة مرات، إلا أذا كان يعاني من مشكلة نطقية. وحتى لو لم تكن هناك أسباب مقنعة، فهذا لا يبرر ما قابلها من إجراءات عقابية قاسية.
الطفل أحمد الذي يحبو نحو التاسعة من عمره في قصة «زيت سمك»، يستعجل الانتقال من مدرسة الصغار إلى مدرسة الكبار، لأسباب كثيرة، منها ثلاثة أسباب تتعلق بتعامل ثلاثة معلمين، الأول لرغبته بالتخلص من المعلمة خالصة؛ لأنها تعامله كطفل، وكان يتلصص على ساقيها وملابسها وهي تركب الأرجوحة. فأحمد لا يرغب بأن ينظر إليه كطفل، ولا أطفال في المخيمات، وتلصصه عليها؛ لإثبات أنه لم يعد صغيرًا، وأن يفهم كثيرًا من الأسرار، على الأقل بينه وبين نفسه.
الثاني بسبب المعلم محمود الذي كان يتواطأ مع الآذن سعيد الحلاق الذي يسلب مصروف الطلبة كل أسبوع بحجة أن شعورهم طويلة ويجب قصها، وكان المعلم «طويل القامة، معقوف الجسم، لا تفارقه عصاه أبدًا، يلسعنا بها وبسبب وبلا سبب». فهذا المعلم، الذي يضرب أنَّى عنَّ له ذلك، كان متفقًا مع الآذن سعيد، الذي يجبر الطلبة على الحلاقة وسلب مصروفهم أجرة له، ومن يرفض، فعصا الأستاذ محمود بانتظاره، فشعره طويل، ويجب أن يقص وإن لم يكن ظاهرًا، فطول الشعر وقصره يحدده الآذن سعيد وعصا الأستاذ.
القاص لا يدين المعلم ولا يهدف الإساءة إليه
الثالث بسبب معلم عاقبه، ولما اكتشفت الخالة آثار الضرب، سألت عن السبب، فلما رفض ضربته بشدة، واعترف لها على أن لا تخبر والده، لكنها أخبرته، فضربه، قائلًا: «لو لم تخطئ لما عاقبك المعلم» فاضطر للاعتراف بذنب لم يفعله، وملخصه، أنه ذهب إلى المدرسة متأخرًا، ووجد بابها مغلقًا، والمعلم يترصد المتأخرين بعصاه، الذين اصطفوا في طابور بجوار السور، فكان أحمد أول الطلبة، وأول ضحايا العقاب: «فكنت أنا أول الطلبة المصطفين في طابور الضرب بالمؤشر على اليدين عشرًا، وعلى الظهر ستًا، وعلى المؤخرة خمسًا، فبدأ العد على يديّ واعدًا نفسي متحديًا الأستاذ أن لا أبكي. وبعد أن انتهى، طلب مني أن أدير له ظهري كي يضربني على مؤخرتي فرفضت. أصر هو، زاد إصراري، لوَّح بعصاه في الهواء، هربت، لحق بي، ركضت، ركض من خلفي، وكلما اقترب مني ضربني بعصاه… فألقمته حجرًا».
هذه القصة المتخيلة كسبب للضرب، كان أحمد ضحيتها وليس بطلها، فهو تحت طائلة الضرب من المعلم والخالة والأب، ومن المؤكد أنه تعرض لضرب المعلم، ولكن كان يتمنى ويحلم أن يرفض، ومن يستطع أن يرفض؟ ولذا تخيل أنه رفض وتمرد وهرب، ولما لاحقه الأستاذ بعصاه، ألقمه حجرًا… إنها المخيلة الواسعة، تكذب لتنجو ولا تنجو !… إنه الحلم بالتمرد والثورة والخلاص من بطش بعض المعلمين وقسوتهم غير المبررة.
وبعد؛؛؛ فإن «عصافير المساء تأتي سرًا، عمان: الآن ناشرون وموزعون، 2018، 96 صفحة»، مجموعة قصصية أجاد فيها القاص محمد عارف مشة رسم صورة المعلم في القصص التي أشرنا إليها، وتمثلها القارئ حية ناطقة أمامه، وربما استدعت ذاكرته أنماطًا من هؤلاء المعلمين على أشكالهم وصورهم المختلفة فيما خبره في مدرسته، أو مما سمعه وتناقلته الأخبار وألسنة الخلق. والقاص هنا لا يدين المعلم ولا يهدف الإساءة إليه، فهو معلم متقاعد، ومارس التعليم شطر العمر على الأقل، ولكنه يشير إلى نماذج سلبية موجودة، وخاصة أيام كان طالبًا، وأثر هذه النماذج على الطلبة ومسيرتهم الحياتية، وهي دعوة للتصحيح والإصلاح، خاصة وأن بعضًا منها ما زال موجودًا وإن بأعداد قليلة.
ومما يجدر ذكره أن القاص محمد عارف مشة قد أصدر عددًا من المجموعات القصصية، منها: «حبك قدري، 1983. همسة في زمن الضجيج، 1989. الولد الذي غاب، 1995. مولاي السلطان قطز، 2002. بائعة الكبريت، 2006. شبابيك، 2016». وهو من رواد القصة القصيرة جدًا، وناشط ثقافي، وعضو رابطة الكتاب الأردنيين واتحاد الكتاب العرب.