د. باسم الزعبي
“الدستور”
تستوقفك رواية غايكوب للكاتبة السعودية د. أمل الجبرين الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون بموضوعها، وعمق طروحاتها، وبنائها الفني المتميز، الذي استطاعت الكاتبة من خلاله تقديم رؤيتها لمجمل القيم والقضايا المطروحة بعيدا عن المباشرة والسرد الخطابي. إنها رواية واقعيّة في أشد ما يكون عليه الواقع، الواقع السعودي المندغم مع الواقع العربي، أو ربما المندغم مع العالم كله. في الواقع يلتقي على هذه الأرض أناسٌ من شتى الملل: العرب والهنود، والبنغال، والباكستانيون، والأمريكان، والأروبيون. تلتقي على هذه الأرض الحضارات، هنا تلتقي حضارات البنغال، واليمنيين، والعراقيين والشوام، والمصريين،والغرب الأوروبي والأمريكان، وحتى حضارة السوفييت تسللت من خلال المقيمين على هذه الأرض، وعليها وعبرها تتقاطع الأحداث التاريخية، وإنها لتكاد تكون بؤرة الأحداث العالمية خلال العقدين الأخيرين.
تبدأ الرواية من مكان منعزل في تلك» القارة» الكبيرة، قرية أم النخل التي تصبح بؤرة العالم، منها تطل الشخصية الرئيسية- يعقوب الذي اتخذت الرواية من اسمه عنوانا- على العالم الخارجي من خلال الشخصيات الروائية الأخرى. بداية من شخصية» عائد» خادم المسجد، البنغالي، الذي من خلاله نطل على قصته كاملة، ونطّلع على معاناة الشعب البنغالي جراء الفيضانات والفقر، ونطّلع على قيم وحياة الناس الكادحين. ويبدو أن الكاتبة أرادت من خلال شخصية عائد أن تبيّن أن هذه الفئة من الناس، التي غالبًا ما يُنظر إليها في بلدان الخليج العربي نظرة دونية، هم في الحقيقة أبناء حياة، وصناع حياة، ويمتلكون من قيم الحياة ما يفرض تغيير الصورة النمطية السائدة عنهم نتيجة الفقر المدقع الذي يعيشون فيه.لقد قدّمت الكاتبة قصة عائد ليتعلم منها يعقوب التسامح كما في قصة «ناناد أبهاياي» التاجر البوذي العصامي، الذي يصبح غنيّا جدًا، لكنه يتعرض لمضايقات من البيئة المحيطة به لأنه يختلف عنهم دينيًّا.
وشخصية الشيخ سعد، إمام المسجد، الذي يؤوي الطفل اليتيم يعقوب بناء على توصية من الأمير، طبعًا،وهناك شخصية أم يعقوب، وخالته، وزوجة الشيخ سعد، وبناته، وصديقه خالد وهي شخصيات كان لها تأثير في حياة يعقوب، رغم أن حضورها كان محدودًا في الرواية.
ثم نتعرف على شخصية الدكتور قاسم كريم العراقي، الناجي الوحيد من عائلته جراء الحرب المدمرة في العراق جراء الاحتلال الأمريكي، الذي يتعرف عليه يعقوب، وتمتد بينهما صداقة عميقة، قائمة على الثقافة والمعرفة، ومن خلاله نطلُّ على الحرب في العراق، ثم شخصيّة هارون السوداني، الذي يعمل لدى أمير المنطقة، والذي يحمل وعي الشعب السوداني الذي عاش طوال تاريخه الحديث في ظل حكم عسكري، لذلك لا يجد نصيحة ليعقوب أفضل من أن يُرشّحه للالتحاق بالجيش، وشخصية صديق الطفولة خالد المساعد، القلب المفتوح دائمًا للاستماع لهموم يعقوب، ونجد أيضا شخصية «غاية»- الشخصية المتخيلة التي يتقمصها يعقوب- عالمة الجنيتيك، التي تدرس في أمريكا، والدكتورة هيام المصرية، وبلقيس اليمنية التي يتزوجها الدكتور قاسم كريم، وغيرهن من الشخصيات.
ومما يلاحظ على الشخصيات المكانية والبشرية، أنها شخصيات مهمّشة، بدءًا من القرية المنسية على أطراف الصحراء، وقرية عائد البنغالي الغارقة بمياه الفيضانات، ويعقوب اليتيم، وعائد البنغالي، ثم الوافدين المتعددين.
تنتقل أحداث الرواية في أماكن جغرافية متعددة: بداية من قرية أم النخيل، ثم العراق- البصرة، وبغداد والموصل- الأماكن التي مرّ بها الدكتور قاسم كريم، وموسكو التي درس فيها، وبنغلاديش مكان ولادة ونشأة عايد، وحرب استقلالها، وأمريكا مكان ولادة ونشأة بلقيس اليمنية، والعاصمة الرياض التي ينتقل إليها يعقوب ملتحقًا بالجندية، ثم فلسطين حيث تنتقل سارة المتخَيّلة وأولادها، وابنها يوسف ليقاتلوا المحتلين الإسرائيليين، أما الأماكن التي تتحرك فيها الشخصيات فهي تتراوح ما بين بيت الشيخ سعد، والمسجد والمستشفى ومعسكر التدريب، ومستشفى الأمراض العقلية، والجامعة، وديوان الأمير…وغيرها من الأماكن.
من خلال الشخصية الرئيسية يعقوب، تتقاطع وتتشابك أحداث الرواية ومصائر الشخصيات المتعددة فيها. مصائر الشخصيات غير منفصلة عن الأحداث الواقعية التي نعيشها، فنحن نجد انعكاسات لكل الأحداث المهمة والبارزة التي مرّت في المنطقة في العقدين الأخيرين: احتلال العراق سنة 2003، الحرب في سوريا التي اندلعت عام 2012، انتفاضة السكاكين في فلسطين 2017، الحرب على الإرهاب منذ أحداث 11 أيلول 2001 في أمريكا، الصراع مع إيران، والتوترات في المنطقة العربية، والصراع الدولي بين الغرب والشرق.
في خضم هذه الأحداث يبرز سؤال الهوية، فالشخصية الرئيسية تعي انتماءها، فيعقوب يعي نفسه أنه عربي مسلم، تربطه مع بقية العرب ما اصطلح على تسميته وحدة المصير، فالعرب جميعا مستهدفون، ومصيرهم مرتبط بعضه ببعض، لذلك نجد الرواية تجمع أكثر من شخصية عربية في علاقات متشابكة غير منفصمة. الأحداث وما فيها من اللامعقول، من الهذيان الذي يشبه اللامعقول، انعكس على الرواية التي بدت في جزء منها تشبه الهذيان، فيعقوب عندما يصاب بضربة شمس يهذي من خيال مريض، وتأتي الأحداث المتخيلة تشبه الواقع المريض.