ثنائيات متناقضة في رواية «العبور على طائرة من ورق»

ثنائيات متناقضة في رواية «العبور على طائرة من ورق»


class="inline-block portfolio-desc">Portfolio

text

موسى إبراهيم أبو رياش
كاتب أردني

تغوص رواية «العبور على طائرة من ورق» للروائية الأردنية زينب السعود عميقا في النفس البشرية وآلامها وعذاباتها وآمالها وتطلعاتها وأحلامها، وجانبها السيئ أحيانا، من خلال مشكلات اجتماعية وطبية وتعليمية، وصرعات داخلية وبينية، من رحم المجتمع الذي يمور بالمشكلات والاختلافات؛ منها ما هو ظاهر بيّن، ومنها مستتر يغوص كخنجر في قلب صاحبه. كان لافتا بوضوح في هذه الرواية الصادرة في عمّان عن الآن ناشرون، عدد من الثنائيات المتناقضة، أو المتضادة في بعض جوانبها، انسجاماً مع الواقع الذي يتشكل من ثنائيات في كل المجالات، وهذا أدعى للمقارنة وجلاء الأمور، وقديما قال الشاعر دوقلة المنبجي في قصيدته اليتيمة:
ضِدّانِ لِما اسْتُجْمِعا حَسُنا
وَالضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِدُّ
وتتناول هذه المقالة خمس ثنائيات متناقضة كليا أو جزئيا، والنقيض لا يعني بالضرورة أنه سيئ أو مرذول، فثمة نقيض يُحترم، أو يؤخذ بحسن نية.

إلياس وزياد

إلياس وزياد زميلا مدرسة، ولكن شتان ما بينهما؛ فإلياس مجتهد متفوق، مشهود له بحسن الخلق على فقره، وزياد حقود حسود، افترى على إلياس أنه يغش، فتسبب في تأخره الدراسي، ولكن النتيجة النهائية أثبتت تفوق إلياس، وسفره لدراسة الطب والتخصص، فكان الطالب المجد الطموح، الخدوم القيادي لزملائه، المبادر لحل مشكلاتهم، الذي يُقابل بالاحترام والتقدير أينما حلّ. بينما زياد ابن الثري تعيّن موظفا في الجامعة، واقتنص فرصة عودتهم من أوكرانيا إلى الأردن واضطرارهم للمرور من خلاله بإجراءات من أجل إكمال دراساتهم، فأساء معهم الأدب، وعرقل إجراءاتهم، وشخصن مشكلاتهم، فلقي منهم ما يستحق.
إلياس وزياد نموذجان متناقضان تماما لا يلتقيان، مع أن الظروف لصالح زياد الثري أن يكون أكثر تسامحا وتقبلا من إلياس الفقير، الذي عانى البؤس والحرمان قبل أن يرعاه الدكتور عبد السلام، ولكنه الحقد وسوء الطوية والجذور العفنة الموروثة عن أبيه الفاسد أيضا.

أميرة وسمية

أميرة عمّة الفتاتين أمجاد وأنفال، ضحت بشبابها ومستقبلها لرعاية الطفلتين بعد وفاة والدهما، وزواج أمهما التي تركتهما. اضطر خطيب أميرة أن يتركها بضغط من أمه لأنها تحملت عبء الطفلتين، ولا مكان لها معهما في بيت الزوجية، وما كان لها أن تتركهما وليس لهما معيل إلا هي.
بينما سميّة، ضحت بطفلتيها لتتمتع بشبابها وتتزوج بعيدا عنهما. موقف أميرة ليس مستغربا، موقف نبيل بتحملها المسؤولية في التربية والإنفاق والرعاية وإغداق الحب والحنان والأمومة، ولكن موقف سميّة مدان، ولم يكن لها صوت في الرواية لتبرر موقفها وتصرفها في التخلي عن طفلتيها من أجل زوج وطفله.
الرواية أدانت سميّة دون بيّنة دفاع، ولكنها أكدت في نهاية زيارتها لبنتيها إلى أنه سيأتي يوم وستعرفان أنها تحبهما أكثر من روحها.
أنفال على الرغم من لهفتها لحنان الأم وعناقها والارتماء في حضنها، إلا أنها لم تغفر لها، ولم تستسلم لرغباتها الدفينة، فاتخذت موقفا عدائيا صريحا من أمها، أما أمجاد فتلقت أمها ببرود.
وفي المقابل، كانت أميرة أماً لهما لا يعرفان غيرها، ويعترفان لها بالفضل والعرفان.
هتاف وهديل أختان، ابنتا الدكتور عبدالسلام، وعلى الرغم من الروابط القوية بينهما، إلا أن ثمة اختلافات جوهرية بينهما؛ فهديل فتاة مطيعة مسالمة، اختار لها والدها تخصص طب الأسنان، فأسعدها أن أراحها من عبء الاختيار، ورضيت بذلك دون نقاش. بينما هتاف كانت تحب الأدب، وترغب بدراسته، ولكن والدها فرض عليها أن تدرس الطب في أوكرانيا، رضخت لذلك مكرهة، وفي قرارة نفسها ترفض ذلك، ولما عادت إلى الأردن، قررت عدم مواصلة دراسة الطب والتسجيل من جديد لدراسة اللغة العربية. إن تسخير الأبناء لتحقيق أحلام الآباء ظاهرة موجودة في المجتمع، خاصة لدراسة الطب أو الهندسة، فلقب والد الدكتور أو المهندس لقب مغرٍ، تشرئب له الأعناق، يشعر الأبوان بالفخر والعلو.
ولا مشكلة في أن يسعى الأبوان لتحقيق أحلامهما من خلال أولادهما، ولكن المشكلة تكمن في الإكراه والإجبار ووأد تطلعات أولادهم والجور على قدراتهم، والأجمل أن يلتقي حلم الأبوين مع حلم الأولاد، فتكون النتيجة رائعة ومرضية للجميع.

أمجاد

ولدت أمجاد فتاة، ولكن في سن البلوغ، تبين أنها ذكر في إهاب أنثى، وعلى الرغم من محاولة عمتها أميرة إنكار ذلك، إلا أن كل الاختبارات الطبية أكدت ذلك، وأنها في حاجة إلى علاج وعمليات جراحية لتعيش ذكرا لا أنثى. كانت أمجاد تلبس وتلعب وتدرس وتسكن على أنها فتاة، ولكن شعورها الداخلي كان لا يتقبل ذلك؛ فلم تهتم كثيرا بملابسها وهيأتها، وزاد من ذلك أن شكلها كان أقرب إلى الرجولة، فلا معالم أنثوية لها، ومشيتها رجولية، وتميل إلى البنات.
اضطرار أمجاد للعيش كفتاة، ووأد رغبتها بأن تكون ذكرا، جعلها تعيش صراعا داخليا، وقلقا دائما، واضطرابا مستمرا، فهي لا إلى هؤلاء أو هؤلاء.
وكانت عمتها ترفض إجراء أي عملية لها خوفًا من كلام الناس، الذي لا يقدر ولا يرحم، ولذا؛ كان إصرار أمجاد أن تسافر إلى الخارج لتدرس وتعمل هناك، وتعالج نفسها بعيدا عن التعقيدات الاجتماعية. ساعدها الدكتور عبد السلام في السفر، ولكن العملية بقيت في علم الغيب إثر زلزال جنوب تركيا 2023 وفقدان الاتصال مع أمجاد.
الدكتور عبد السلام

الدكتور عبد السلام تربوي مقدر، وأكاديمي محترم، رجل محب للخير والعطاء وتقديم العون والمساعدة، وهو أب محب لبنتيه، يعمل أي شيء لإسعادهما وحمايتهما. في المقابل، فهو على الرغم من أنه تربوي خبير، ويدرك أبعاد وعواقب الإكراه، إلا أنه أجبر ابنته هتاف على أن تدرس ما يريد لا ما تريد، واختار لابنته هديل ما يريده هو دون أن يسألها أو يعرف رغباتها. تقبلت هديل، ولم تفعل هتاف، وانقلبت على اختيار أبيها بعد ثلاث سنوات من دراسة الطب.
من جانب آخر، عندما علم أن أمجاد ذكر في حقيقتها وليست أنثى، وكانت صديقة مقربة لابنته هتاف، تدخل بقوة لنقلها إلى جامعة أخرى لتقطع علاقتها مع ابنته. وتدخل ثانية بعد تخرجها لتكمل دراستها في الخارج بعيدا عن ابنته، وهو تصرف قمعي لم يأخذ في الحسبان مشاعر أمجاد وهتاف، وبرر لنفسه ذلك أنه يحمي ابنته، وكان بإمكانه، وهو التربوي، أن يصارح الطرفين بهدوء، ليقررا خطواتهما اللاحقة، دون أن يتسبب في نفور أمجاد من هتاف وكرهها وطردها. كما أنه نجح في حماية ابنته من أمجاد، فهل يستطيع حمايتها من جميع الشباب حولها في الجامعة؟
وبعد؛ فإن «العبور على طائرة من ورق» رواية غنية بشبكة علاقاتها، وحالات الشد والتجاذب والتنافر والصراع بين أطرافها، نجحت في سبر أغوار النفوس، وكشف ما يعتمل في الصدور. كتبت بلغة جميلة، وسرد سلس، ووظفت تقنية تعدد الأصوات ببراعة، طوفت بنا في عمّان بأحيائها ضاحية الرشيد وضاحية الياسمين وصويلح والجامعة الأردنية، وإسطنبول وكيشيناو عاصمة مولدوفا، وعبرت عن ثقافة كاتبتها الواسعة.
وعلى الرغم من أنها مرتبطة بالرواية الأولى لزينب السعود «الحرب التي أحرقت تولستوي» إلا أنها يمكن أن تقرأ بشكل مستقل، دون أي مشكلة، كما أنها تلمح لجزء ثالث محتمل لتكتمل بعض القصص التي ما زالت معلقة مثل علاقة إلياس مع هتاف، ومصير أمجاد، وعلاقة سمية مع بنتيها، وغيرها.